نعلم من تاريخ الأمم أن كلّ أمة تتكون من وجهاء وأصحاب مال وقوي أمن ورجال تربية وفكر,لكلٍ عملٌ ينبغي أن يقوم به ليُقامَ بالهمَ العام علي أحسن حال .
هذا الوضع منسحب علي موريتانيا المتكونة في الماضي من إمارات وقبائل برؤساء إليهم يُرجع في اتخاذ قرار الحرب والسَلم ناهيك عن حل المشاكل الداخلية التي تتم إثر ضوابط وسلَمٍ محددةٍ علي معيار مقتضياتِ الجاه والمال والقوَة.
قد لا يكون واردا التطويل في هذا بل المناسبُ إلقاءُ نظرة عاجلة علي ما كان عليه الأمر عندنا ولنتتبَع ما أمكن التطوَر الحاصل في العلاقة بين المال –الجاه من جهة وأهمية المال اليوم في دخول البرلمان من جهة أخري علي أن نورد الملاحظات كما هي بصورة طبيعية وعلي مقياس الفهم الطبيعي بعيدا عن التكلُف في التصوَر والتحليل .
إبان حكم الرئيس المختار ولد داداه كانت تشكيلة البرلمان ثابتة :الأعيان والمثقفون وبعض من السياسيين الحركيين , المال وقتها لم يكن مطلوبا لدخول البرلمان .
أذكر أنه ودونما مساس بأهمية المال ودوره في نهضة المجتمعات لم يكن حصوله شرطا لدخول الجمعية الوطنية .
ومع الأحكام العسكرية ظلَ الحالُ هكذا مع بعض التَغيير في اختيار النَوَاب بحسب القرب من النظام وحافظ الوجهاء علي مراتب متميَزة إن لم يكن في البرلمان ففي الحزب الحاكم أو القطاعات الحكومية بما فيها السفارات.
ومع 1992 بدأت مرحلة جديدة تتسم ظاهرا بالديمقراطية مع بقاء الحكم في يد العسكر لكن احتفظ فيها الوجهاء بقدر من التمثيل المعتبر في أكثرية المقاطعات والقطاعات.
إن انتخابات 1992 رغم كونها الأولي في ما يسمي بالديمقراطية هي التي فتحت شهية رجال الأعمال لولوج البرلمان إذ لم يكن يخطر بالبال في البلد التقليدي وفي ظرف وجيز نسبيا تشكيل البرلمان من غير الوجهاء التقليديين لأنهم من يمثل الشعب وقتها .
ويحسن هنا أن نذْكر أن الولايات الشرقية سوف لن تتأثر بمناخ رياح المال هذه إلا بعد فترة طويلة وذلك لظروف البيئة واكراهات الأحوالعاتيد العسكر و العسكر وقد.وله شرط لدخول الجمعية الوطنية ولية التي تتم إثر ضوابط وسلم محددة علي معيار مقتضياةت الاجتماعية .
وحافظ مسؤولون عسكريون سابقون علي رئاسة البرلمان ومن بعد رئاسة اللجنة المستقلة للانتخابات في دليل واضح علي قرب النظام من الذي يجري وقيامه باللازم كي يقبل المواطنون بالوضع الجديد .
ومع ذلك شهدت قبة البرلمان نقاشات ساخنة تحاكي ما يتم في الدول المتقدمة لكن بناء علي العاطفة من جهة وانطلاقا من معاداة أفراد الحكم مرات عديدة .
وظل النظام يرقب المشهد :فمن جهة يفاخِر بجلسات البرلمان وما يرفع فيها من نقد ومن جهة يحاسب علي الشَطَطِ وبعض الأحيان يَسْحَبُ بواسطة مكتب البرلمان الحصانة ويُبْدِلُ النائبَ بخلفه من دون الأسباب الوجيهة :الوفاة الاستقالة ,التلبَس ...
لم يكن للمال أيُّ سلطان علي البرلمان الذي كان يُنظَرُ إلي أعضائه بأُبَّهة أسمي من ما هي عليه الآن ,لا أدري ما السبب !
ظهور المال كلاعب أساسي في الانتخابات :
إن القول بأن المال لم يكن له تأثير في الاستحقاقات الماضية مجاف للحقيقة بل الحق أنه لم يكن فقط بالمستوي الذي عليه الآن .
أذكر أن اقتراع 2013 في بعض المقاطعات كلّف أزيد من مئة مليون لكل طرف بحسب القيِّمين عليه وهو ما يساوي أربع مرات علاوات نائبين لمأموريتين انطلاقا من 400.000أوقية قديمة شهريا للنائب تجمع بين العلاوة وأتعاب الدورة .
نحن هنا لا نوجه اللوم للناخبين في قبول المال السياسي فكما يقول نجيب محفوظ:
إذا كان المال هو هدف أولئك الذين يسعون إلى السلطة فليس هناك ضرر في أن يكون هدف الناخبين.
هذا الواقع الذي يغيظ أهله بعد انقضاء نوبة الحملات لم يبعثهم علي وزن الأمور بالعقل بل الذي تم هو التمادي فيه .
فرض الترشح من الحزب واشتراط الحزب للمال :
وبدلا من البحث عن أناس متمرّسين علي قول الحق يدافعون عن المواطن المسكين تجري العادة بانتقاء المرشحين للبرلمان علي قاعدة اليسر في المال : يشاع أن الترشيح تابع للأرصدة البنكية ولتتم إزاحة الموظَف والفاعل السَياسي والوجيه بوصفهم أشخاصا غير مرغوب فيهم .
ومن دون جهد تأكد للناس جدية هذا التوجه حتي لدي عامتهم فتعاملوا معه وبسرعة ,فلا تكاد تجد من الطبقة المثقفة والوجهاء من يطمح في ولوج البرلمان للاعتبارات المذكورة المفتقدة للوجاهة.
يجيء إلي ذهني أنه سنة كذا سيكون الكشف البنكي ضمن ملف الترشيح علي أن يتناسب مع أهمية الدائرة وعدد الناخبين .
يدرك الآن أصحاب المال أن عضوية البرلمان متاحة لهم وحدهم وهذا ما يعني أن الضمير الجمعي للأمة به طاعون لا ينفع معه دواء اللهم أن تُقام حملاتٌ للفهم الصَحيح وليتنزّل كلٌ منزلته :أصحاب المال إلي الأسواق والربح وعدم الخسران والمثقفون والشعوب إلي مهامهم التي من بينها صناعة البرلمان والحكومة و حتي اختيار الرئيس .
لا أحد يجادل في أهمية رجال الأعمال وكونهم العمود الفقري للاقتصاد وهم من يسهر علي التموين والعيش للجميع لكن تلك المهنة الفاضلة لا ينبغي أن يسْتحوذ أهلها علي باقي أوجه الحياة وخاصة السياسية, ليّلاّ يصبح البرلمان ملتقي للأثرياء ولتتحول الحياة السياسية إلي شبه مناقصة وعْرَةِ الشروط .
لم يتفطن الجمع الموقّر إلي هذا بل سيطر عليهم حبَ الظهور والحصول علي جوازات بفوائد عديدة في الأسفار وفي الإقامة.
إن رجل الأعمال يفهم الأمور بقدر جيبه ويحلَل وفق رصيد حسابه وأما النائب فالمطلوب أن يوجه أتباعه بفكره وأن يكون سليط اللسان وأن يميط اللثام عن الأخطاء ويسلَط الضوء علي المثالب .
وقد توافقونني أن هذا غير منتظر من التاجر الذي عليه موضوعيا مراعاة مصالحه الشخصية التي لا يخدمها عدمُ التناغم مع الحكومة.
وبعد أن بيَنا أن مهمّة البرلمان في الأصل شرفية,فهل يحق لنا أن نطالب بإعادة النظر في القوانين المنظمة كي نضمن تحقيق هذه المسؤولية علي الوجه المطلوب وأن نوجه ذاك المال السياسي إلى أوجه صرف تخدم المصالح العامة؟
بذلك أفتح النّقاش حول هذا الموضوع لينال اهتمام أهل الفكر وما أكثرهم من جهة وليهتمَ به من وَكَلَتْ إليه الأمة أمرها في مقام آخر.
أدام الله عافيته على الجميع ...