الانتخابات الامريكية.... بيعة للشيطان

جمعة, 25/11/2016 - 21:18

تنازل الاميركيون عن مُثلهم العليا بعدما كانوا يعتبرون أنفسهم «مدينة على الجبل» وأنهم بالتالي

مميزون عن باقي البشر، تنازلوا عن تسامحهم ودفاعهم عن حقوق الإنسان، وقبلوا بإعلان المرشح الفائز المنادي ببناء الحائط بين الولايات المتحدة والمكسيك على حساب المكسيك.  قبلوا أنه أفلس مرات عديدة إفلاسات احتيالية (حسب القانون) ولم يدفع الضرائب لمدة عشرين عاماً، تقبلوا أنه تحرش بالنساء وأظهر احتقاره لهن، كما أظهر غيظه من الهجرة، خاصة هجرة المسلمين وتطرفهم المزعوم، كما أظهر غيظه من السود الذين أراد استرجاع أميركا منهم، الخ.

كل ذلك لقاء وعد بفرص العمل، وعد كاذب على الأرجح. فهو، أي المرشح الفائز، سوف يعاقب أوروبا بسبب حلف الأطلسي، وسوف يمزق الاتفاق النووي مع إيران، كما سيفعل باتفاقيات التجارة الحرة مع المكسيك وكندا، والأخرى مع بلدان المحيط الأطلسي، كما سوف يدعم الجيش الأميركي ويؤكد سيطرته على العالم.

كل ذلك بوعود، ربما كانت كاذبة، بخلق فرص العمل.

ما اعتاد الأميركيون سابقاً على رئيس مهرّج من هذا النوع، وما اعتاد العالم على أميركا يحكمها رئيس من هذا النوع.

ما كان الأميركيون ليفعلوا ذلك لولا الأزمة الاقتصادية التي تصيب معظمهم منذ ما قبل أزمة 2008 على شدتها. أزمة الركود طويلة تمتد منذ السبعينيات عند فك ربط الدولار بالذهب أيام نيكسون، وفرض أسعار ثابتة على السلع، وعندما اضطرت الرأسمالية الأميركية إلى عقد اتفاقات التجارة الحرة التي بدأت مؤتمراتها منذ باراغواي في 1948، والتي أصبحت تحت لواء منظمة التجارة الحرة، صارت جزءاً من النظام العالمي مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمات حقوق الإنسان. وصار الدولار عائماً لناحية السعر تجاه العملات الأخرى، لكنه يحتاج إلى انتشار الجيوش الأميركية حول العالم لحمايته. وهذا يعني بسط السيطرة على مختلف أنحاء العالم.

في السابق واجه الأميركيون كل بلد آخر حاول وضع قيود مماثلة على التجارة الدولية وأجبروه على التراجع. حرية التجارة مع الليبرالية الجديدة والخصخصة أصبحت دين العالم الجديد. ما كان باستطاعة أحد الخروج على ذلك إلا واعتبر هرطوقياً. أميركا فقط يحق لها فرض قيود على بلدان العالم التي يصيبها الغضب.

ما فعلوه في هذه الانتخابات الأخيرة ليس نابعاً من نية الشر التي يفترضها البعض لديهم. ما فعلوه كان بحكم الضرورة، إذ رأوا أنهم لا يستطيعون مواجهة الركود الطويل الأمد من دون إجراءات من هذا النوع. يريدون الوظائف، إذاً فليرجع العالم إلى حمائية الثلاثينيات التي ربما قادت إلى الحرب العالمية الثانية. يريدون وظائف العمل، إذاً فليذهب المهاجرون إلى الجحيم. أو ليبنِ ترامب السور على حساب من شاء. يريدون فرص العمل، إذاً فليذهب السود من حيث أتوا ولتسترد أميركا عظمتها، بنظرهم طبعاً وجود السود وغيرهم من ذوي الألوان غير البيضاء بينهم يخفف سمات أميركا في القوة والحيوية والذكاء وبقية ما يميز الرجل الأبيض.

باعوا أنفسهم للشيطان. لم يعد الرجل الأبيض يتحمل إعالة كل هؤلاء الغرباء وتمريضهم وجرائمهم وقلة ذكائهم ليثبت أخلاقيته. استعيد شعار «عبء الرجل الأبيض» الفاقع في عنصريته. ليستعيدوا عظمة أميركا الواقعية والموهومة، وليذهب كل الآخرين إلى الجحيم. ألا يؤدي انخفاض سعر النفط إلى مضايقة إيران وروسيا والسعودية؟ فليتدفق النفط وليشعر الأميركيون برخص النفط في خزانات سياراتهم. وليكن هناك حفر في ألاسكا والقطب الشمالي وما ينتج منه من آثار كارثية على البيئة. المطلوب العيش برغد اليوم، أما إذا أصابت بيئة العالم كارثة غداً، فعلى الدنيا السلام. على الطبيعة أن توازن نفسها وتقدم للأميركيين وسائل الراحة المعتادة، أو ما يسمونه «طريقة العيش الأميركية». يخاطرون بمصير البشرية إذا أصيبت الطبيعة بانهيار كارثي، كما خاطروا وغيرهم في الماضي بتدمير الكرة الأرضية نتيجة السلاح النووي ومعامل «الطاقة النووية السلمية». فليكن ذلك ما دام للأميركيين ما أرادوا من طريقة عيشهم.

ما عادت الأزمة الاقتصادية، بنظرهم، تتيح التسامح بما يضايق «طريقة العيش» ببعض الضوابط واستخدام وسائل أخرى للطاقة. فلتعالج الأزمة الاقتصادية على حساب الغير من البلدان وعلى حساب الطبيعة وعلى حساب المصير البشري. جهود مضنية بُذلت منذ أكثر من نصف قرن من أجل البيئة والتجارة الحرة تُمسح بشطبة قلم. على الآخرين أن يدفعوا ثمن طريقة العيش الأميركية (البذخ وتبذير موارد الطبيعة) وعليهم أن يكونوا شاكرين لذلك. ألا تحميهم القوة العسكرية الأميركية من دون مقابل؟

الأمر الصعب هو المساهمة في إعادة ترتيب الأوضاع البشرية بدءاً بتخفيف جنون الرأسمالية في جنوحها نحو التراكم المفرط، وما دامت بيد القلة فهو لا يمس. لا استعداد لمناقشة الموضوع. بذل القليل من المال من أجل معالجة أمور البيئة والبطالة والهجرة يخفف من التراكم، والبحث في هذا الأمر ممنوع (تابو). أزمة الإنتاج في الولايات المتحدة لم تناقش في الحملة الانتخابية، أزمة الاستثمار في الولايات المتحدة لم تعالج. يريدون الاستهلاك المفرط مع حركة رأس المال والاستدانة لتمويل الاستهلاك. وليكن ذلك نتيجة صفقة مع الشيطان. وليكن في ذلك تنازل عن القيم الأميركية. سيان.

العقل البشري تسطّح بفعل انتشار التلفونات الذكية، وغير ذلك من وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسائل انفصال عالمية، فليكن ذلك. انكسرت الروح الأميركية وانهارت مُثُل التسامح والتعددية وحقوق الإنسان والإنسانية، فليكن ذلك. طريقة العيش هي الأهم.

الفضل شلق/ جريدة السفير