أتى تقنينُ الأحوال الشخصية في بلادنا استجابة، وتحقيقا لطموحات حقوقية متزايدة بعد الطفرة التي حصلت في مجال حقوق المرأة، قبل أن يكون سدًّا لفراغ قانوني حاصل في ترسانتنا الوطنية.
و لم تأت تلك الطَّفرة الهائلة من فراغ.. فمنذ ميثاق سان فرنسيسكو [1945] لحقوق المرأة ، شاع وترسَّخ مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وتعزَّز بما ورد في الشِّرعة الدولية لحقوق الإنسان [ميثاق، وتكرَّس بتوالي القرارات الدولية المحسنة لأوضاع المرأة، إلى أن تداعتْ الأمم إلى سنِّ اتفاقية دولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) لسنة:1979، دخلت حيِّز التنفيذ عام 1981، وهي الاتفاقية العاكسة للمبادئ الحقوقية التي أكَّدت عليها الشِّرْعة الدولية لحقوق الإنسان . التي وقعت عليها موريتانيا سنة 2000، وسجلت تحفظها على بعض مضامينها لتعارضه مع الشريعة الإسلامية، و القوانين الوطنية، 2001، ثم صادقت عليها فيما بعد سنة 2009.
ولأن هذه الاتفاقية تطالب في مادتها السادسة عشر الدول الأطراف باتخاذ التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج، وتكرس مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في نفس الحقوق المتعلقة بالأطفال،و الإنجاب والولاية والقوامة والوصاية والحضانة و اختيار اللقب العائلي، والمهنة والوظيفة، و الملكية وإدارة الممتلكات والتصرف فيها، و تُلزَم الدول بتحديد سِنٍّ أدنى للزواج وتسجيل الزواج في سجل رسمي...فإن هذه المطالبة حرَّكتْ ذهنية المشرعين ليس في موريتانيا فحسب إلى تقنين تلك الحقوق دون المساس بالشريعة الإسلامية التي تعتبر مصدرا دستوريا للقانون الوطني، و في نفس الوقت إعطاء الاتفاقية الدولية التي يمنحها الدستور قيمة أسمى من القوانين الوطنية [المادة 80 من الدستور].
وبين هذا التطلع الطامح لتكريس الشرعية الدولية، والرغبة الراسخة في التشبث بالمبادئ الأساسية للدستور، حاول المشرِّع أن يجمع بين المطلبين الآنفين دون أن يمس الثاني منهما بسوء، ما أسْفر عن ميلاد أول تقنين وطني يتعلق بالمرأة بل بالأسرة عموما تجسد في صدور القانون رقم: 052/2001 المتضمِّن مدونة الأحوال الشخصية (Code du statut personnel).
لقد أتت هذه المدونة متشبِّثة إلى حدٍّ بعيد بالفقه المالكي في نسخته الخليلية ومتأثرة إلى حد ابعد بصياغته ، بل إن مطالعها يلْحظ بشكل واضح أن بعض موادها مأخوذة حرفيا من مختصر الشيخ خليل بن إسحاق المالكي.
ولئن سدت هذه تلك المدونة فراغا تشريعيا إلا أنها لم تلبِّ طموحات المشتغلين بالقانون الطامحين إلى صياغة تقنين يسد كافة الثغرات، ولا يدع مجالا للإحالة التي تفرغه من محتواه، و يجمع بين الالتزام بالشرعية الحقوقية الدولية ، والتشبث بالشريعة الإسلامية، وهو ما طرح إشكالا مدوِّيا باديًّا من خلال الممارسة و التَّبنِّي نمثل له من خلال المسائل النموذجية التالية:
أولا: الزواج: تعرِّف مدونتنا الزواج [المادة الأولى] "بأنه عقد شرعي بين رجل وامرأة على وجه الاستمرار، يقصد منه الإحصان والإنجاب، بإنشاء أسرة تحت قوامة الزوج على أسس ثابتة تضمن للزوجين القيام بواجبات الزوجية في ود واحترام".
ولئن كان هذا التعريف يتجاوز ما درج عليه المالكية في تعريف النكاح بأنه: عَقْدٌ لِحِل تَمَتُّعٍ بِأُنْثَى غَيْرِ مَحْرَمٍ وَمَجُوسِيَّةٍ وَأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ بِصِيغَةٍ ، ويستبطن خلاف أهل الشريعة حول حقيقة الزواج: الوطء أو العقد أو هما معا، إلى ما ينتج الزواج من آثار تفيد ملك استمتاع الرجل بالمرأة فلا يحل لأحد غيره ، وحِلُّ استمتاع المرأة بالرجل لا انه ملك خاص بها، إلا أنه يؤكد على قِوامة الرجل على المرأة، والتي تعني في مدلول أهل اللغة و الفقه والتفسير، أَنَّ الزَّوْجَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَيُصْلِحُهَا فِي حَالِهَا، وَيَقُومُ عَلَيْهَا آمِرًا نَاهِيًا كَمَا يَقُومُ الْوَالِي عَلَى رَعِيَّتِهِ ،وهو مدلول تخطَّى فيه ابن العربي بالقيد السابق ما ذهب إليه الْجَصَّاصُ في تفسير القِوَامة بــ:(التَّأْدِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ الإِمْسَاكَ ، والمَنْع مِنَ الْخُرُوجِ ، والطَاعَة) دون أن يصل استحقاقها عند الزمخشَرِيِّ بِالْفَضْل لاَ بِالتَّغَلُّبِ وَالاِسْتِطَالَةِ وَالْقَهْرِ، ما حدا ببعض التشريعات الإسلامية إلى العدول عن إدراج مصطلح القِوَامَة في تعريف الزواج إلى مصطلح "رعاية الزوجين" كما فعل المشرع المغربي ، أو مصطلح رئيس العائلة chef de famille كما فعل المشرع التونسي، وبين هذا وذاك حاول المشرع الوطني تلطيف مصطلح القوامة بالعدول عن معناه التقليدي المتبادر، إلى مفهوم الشراكة حين أكَّد في المادة:56 "على أن الزوج هو قيِّم العائلة، ويقوم بذلك الدور في صالح الأسرة، وتساعد الزوجة زوجها في إدارة شؤون العائلة".
وعلى الرغم أن موريتانيا تتمسك بتحفظها على المادة:16 من الاتفاقية الدولية لمناهضة التمييز ضد المرأة التي تلزم بالمساواة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، إلا أنها بحاجة إلى مراجعة بعض المقتضيات التفصيلية المتعلقة بالقوامة الواردة في قانونا والتي هي محل خلاف قوي بين أئمة الفقه كولاية الزوج على أموال زوجته (الذمة المالية للمرأة) للاستفادة من قول جمهور العلماء القائلين بعدم ولاية الزوج على أموال زوجته مطلقا،خلافا لما ذهب إليه المالكية من مرجوح قولهم بإعمال ولايته على ما زاد على الثلث في التبرعات إذنا و إمضاء ففي الأخذ بقول الجمهور الرَّاجح "عَقْلنة" لذلك التحفظ الشامل على المادة الآنفة .
ثانيا: الأهلية: نعني هنا أهلية التزويج التي تكمل بالعقل وإتمام الثماني عشرة من العمر طبقا للمادة 6 من المدونة، كما تمنح المدونة الحق للولي في تزويج ناقص الأهلية إذا رأى مصلحة راجحة في ذلك ويرتِّب على مخالفة ذلك عقوبات جنائية، أراد من خلالها المشرع حماية القاصر لكن تقاصَرتْ عن وضع معيار واضح تحدَّد به تلك المصلحة الراجحة، حين أبعدت القضاء عن الإشراف على تزويج القاصر ،و جعلت تقدير تلك المصلحة مسنودا بالأساس إلى الولي فقط الذي لا قد يحسن تقدير المصلحة الفضلى للطفل في اغلب الأحيان، لذا أحسن المشرع التونسي حين اشترط موافقة الولي والأم معا [الفصل: 6 ]من مجلة الأحوال الشخصية "زواج القاصر يتوقف على موافقة الولي والأم.. "، وهو استنطاق للمادة:148 من القانون المدني الفرنسي:"لا يمكن للقاصرين أن يعقدوا زواجا دون موافقة الأب و الأم .."، ما يساعد على محاولة التوصل إلى تلك المصلحة الراجحة خصوصا في حال غياب الولي/ الأب؛ لذا لا بد أن يبين القاضي أو نائب وكيل الجمهورية في مكان العقد الزواج الذي يمكنه أن يمنح إعفاءات من شرط العمر-المنصوص عليه في المادة:144- لأسباب خطيرة [المادة145 ق؛م؛فرنسي] في القرار المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية، وإجراء بحث اجتماعي، ويجب أن يكون القرار القاضي بالاستجابة إلى الزواج غير قابل لأي طعن، كما نص على ذلك المشرع المغربي، ويدفعنا إلى مسْطرة تلك المقتضيات التي تكفل المصلحة الفضلى للطفل.
إن منع فقهاء هذا القٌطر لزواج يتيمة البادية قبل البلوغ الذي هو قول مالك المرجوع عنه و به اخذ خليل عند قوله "خيف فسادها" تبعا للمتأخرين وتمسكهم بالرواية المشهورة عن مالك المرجوع إليها وهي أن اليتيمة لا تزوج قبل البلوغ أصلا، وهو ما تبنَّاه الحاج الحسن بن آغبدي في نوازله حين قال:وأما أنا فلا أزوجها قبل البلوغ لأجل ما ظهر من عسر شروطها"، يخولنا التوسع في الأهلية في ظل عدم صرامة المشرع في وضع آلية ضامنة لحماية وتقدير مصلحة القاصر كما فعل المشرع المغربي.
ثالثا: الولاية. المقصود هنا ولاية التزويج وهي ثالث ولايات النفس التي يراد بها سلطة الإشراف على الشؤون المتعلقة بشخص الْمُوَلَّى عليه ونفسه ، و هي ركن عند المالكية والشافعية لا يتحقق وجود العقد إلا به قال: خليل"وركنه ولي وصداق ومحل وصيغة " وهذا لا إشكال فيه لأنه من المعلوم أن ولاية التزويج ولاية نظر، وثبوت ولاية النظر للقادر على العاجز عن النظر أمر معقول ومشروع . لكن الذين تبنوا ركنية الولي في عقد الزواج يقولون بأنه لا يصلح تولية المرأة إيجابا أو قبولا ، وهو ما تبنته مدونتنا في مادتها العاشرة حيث اشترطت الذكورة في ولاية النكاح أخذا بمذهب جمهور العلماء(المالكية،الشافعية،الحنابلة)، و استدلالا بآية القوامة، وما أخرجه ابن ماجة و الدارقطني من حديث ابن هريرة " لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " ، بخلاف ما ذهب إليه الحنفية من أَنَّ ولاية النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الزواج فلَوْ زَوَّجَتِ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وعلى هذا الرأي يسير المشرع المغربي حيث يعتبر الولاية حقا للمرأة ، تمارسها الرشيدة حسب اختيارها ومصلحتها، كما يحق للرشيدة أن تعقد زواجها بنفسها، أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها"، وبهذا يكون المشرع المغربي منحازا إلى روح الاتفاقية الدولية متشجعا بما ذهب إليه الأحناف، ما يستدعي مراجعة هذه المقتضيات.
لكن المدونة الموريتانية أهملت جانبا مهما فيما يتعلق بالأولياء وهو مسألة انتقال الولاية عند الغيبة أو الفقدان، أو الإهمال هل إلى الولي الأبعد أم إلى القاضي خصوصا في ولاية الجبر التي يكون فيها الولي مقدَّما لا ينازعه احد في الولاية،[ وهي التي تكون للأب، والمالك، والوصي]، طبقا لقول خليل: "وجبر المالك ...\ثم أب وجبر المجنونة، والبكر ولو عانسا إلا لخصي على الأصح، والثيب إن صغرت أو بعارض أو بحرام\...وجبر وصيٌّ أمرَه أبٌ به أو عيَّن له الزوج..." ، ولدى المالكية في ولاية الاختيار تفصيل معروف.
إن انتقال الولاية بالعضل قد حسمته المدونة في المادة: 13 أخذا بما ذهب إليه الجمهور [الحنفية والمالكية عَدَا ابْنَ الْقَاسِمِ - والشافعية و أَحْمَدَ في رِوَايَةٍ] مستندين في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم" فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ" بخلاف الحنابلة(المذهب) الذين يرون انتقال الولاية عند العضل إلى الولي الأبعد لا إلى القاضي . لكن مسطرة الانتقال الواردة في المادة: 13،غير واضحة ما أدى إلى تباين عمل القضاة بين من يصدر أمرا إستعجاليا بعد تلقي طلب التزويج يأمر فيه العاضل بتزويج من في ولايته، ويمكن للولي استئناف ذلك الأمر، فان انقضى الأجل زوجها القاضي بحكم في أصل القضية ، ومن يعتبر ذلك عملا ولائيا يقوم به القاضي دون أن تفتح له قضية وإنما يأمره فإن لم يفعل تولى القاضي الزواج وسجله في محضر وهذا الاتجاه، وان تماشى مع صريح إطلاق المادة:13 "إذا امتنع الولي من تزويج من هي في ولايته بدون مبرر فإن القاضي يأمره بتزويجها فإن أصر تولى القاضي تزويجها".لكنه يحرم الأطراف من حق الاستئناف، لكنه يحسم المسألة، ويؤيده ما ورد في نوازل الوَرْزازي جوابا بما في المعيار على سؤال عن امرأة أرادت أن تتزوج وكان لها ابن عم فزوجها القاضي فهل لابن عمها رد نكاحها قال فلا كلامَ له وهو صحيح" ، وبهذا كان على المشرع أن يعتبر قرار القاضي بالتزويج عند العضل حاسما لا يمكن أن يتطرق إليه الطعن حسما للنزاع، وفي هذا استجابة إلى روح قول خليل:" وعليه الإجابة لكفء و كفؤها أولى فيأمره الحاكم ثم زوَّج"،و قبل تعديل هذه المقتضيات نرى أن يلزم القاضي بالبتِّ ابتداء في ثبوت العضل بقرار استعجالي قابل للطعن في اجل محدد بعده يصدر القاضي قرارا بالتزويج لا يقبل الطعن حتى تستقرَّ الزوجية ، ولقد أحسن المشرع التونسي حين نصَّ في[ الفصل:6 ] على أن:زواج القاصر يتوقف على موافقة الولي والأم، وان امتنع الولي أو الأم عن هذه الموافقة وتمسك القاصر برغبته لزم رفع الأمر للقاضي، والإذن بالزواج لا يقبل الطعن بأي وجه".
و لطالما حيَّرت القضاة اليوم حالة البكر المُهملة :التي أهملها أبوها وضيَّعها بترك الإنفاق و الصون، وعدم المبالاة بها و عدم الاكتراث لها تزوجت أم لا، لعدم التنصيص على انتقال الولاية في هذه الحالة المستشرية، و كان الأولى:الأخذ بما شهَّره ابن هاشم الغلاوي في نوازله التي قال فيها بان وجود هذا الأب كالعدم فيزوجها القاضي أو الجماعة بعد ثبوت موجب التزويج من الصيغة وإذنها نطقا هذا هو المشهور" . و أما حالة الغيبة غيبة انقطاع أو طويلة كالشهرين - [القانون المدني الفرنسي سنة ، المادة:150 ] فلهم فيها تفصيل فالبالغة يزوجها القاضي، وأما غير البالغة فلا تزوج إلا إذا خيف عليها الفساد أو احتاجت إلى النفقة" كما في الحطاب .ولم ير ابن رشد و اللَّخمي خلاف في تزويج غير البالغ قال البُرْزُلي ظاهره ولو قربت الغيبة. كما في فتوى الغلاوي الأنفة.
من كل ما تقدم يظهر لنا أن ولاية الجبر أو الولاية العامة مقيدة بعدم الاستطالة و الشَّطط، وحفظ مصالح المولَّى عليه ، ويتبين لنا مرونة الفقه الإسلامي في انتقالها، عكس ما يشترط المشرع الفرنسي من شروط صارمة في التبليغ و وتحديد غيبة الأب في سنة، واشتراط موافقة مجلس العائلة في حال غيبة الأب والأم والجد والجدة طبقا للمادة:159 من القانون المدني الفرنسي.
رابعا: التعدد.
يسمح المشرع الموريتاني بتعدد الزوجات إذا توفرت شروط ونية العدل وتم ذلك بعد علم كل من الزوجة السابقة واللاحقة إن كان ثمة شرط المادة:45 والملاحظ أن المادة أخذت بالأصل وهو السماح عند توفر تلك الشروط الآنفة، بينما تتبنى بعض التشريعات المنع مطلقا مع الزجر بالسجن والغرامة كالمشرع التونسي [المادة: 18 تعدد الزوجات ممنوع]،تلك المادة(18) التي تجاوزت بالزجر [المادة:147 من القانون الفرنسي لا يمكن عقد زواج ثانٍ قبل انحلال الأول] أو بتقييد كالمشرع المغربي الذي يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، أو مع جود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها، تحت إشراف المحكمة ، التي لا تأذن بالتعدد،إذا لم تثبت ضرورته؛ أو لم تكن لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين "[المادة: 41 م.أ.مغربية]، وهكذا نرى الفارق بين التشريعين حيث يسمح الأول دون وضع ضوابط وضمانات، فيما ينظم الأخير الاستثناء من المنع فينظم بإحكام مجال السماح في حدود ضيقة وتحت إشراف كامل من القضاء.
وما من حاجة إلى القول إن جواز التعدد محسوم فقها ، إلا أنه يتحتَّم التذكير بما أربك العلماء و ولَّد نقاشا مستفيضا حول دلالة الآية الثالثة من سورة النساء عليه: " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ "، فاشتمال هذه الآية على كلمة اليتامى يؤذن بمناسبتها للآية السابقة ، بيد أن الأمر بنكاح النساء وعددهن في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى مما خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة ، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه.. فبين عدم القسط في يتامى النساء، وبين الأمر بنكاحهم ارتباط لا محالة وإلا لكان الشرط عبثا" ، و به يكون التعدد إنما شرع لكفالة اليتامى عند إمكانية العدل، وعند مخافة القسط/ العدل فواحدة، ولو كان المقصود باليتامى جنس النساء لما حسم القران مسألة عدم استطاعة العدل بينهم في قوله:" وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ " ما يؤكد رجاحة ارتباط المسالة باليتم لا بالنساء، أو خوف الزنا،أو أكل مال اليتيمة، أو مخافة الوقوع في مال اليتيم بسبب كثرة الإنفاق، أو تشبيه عدم القسط باليتامى بعدم القسط بين النساء بان من خاف الأول عليه عن يخاف الثاني.
وسواء تبنَّينا أيا من الأوجه التفسيرية الأربع الشائعة التي أتى بها الرازي وتبنَّاها اغلب المفسرين ،ومنها تفسير أمِّنا عائشة التوقيفي لتبني البخاري له في كتاب التفسير الذي رواه عنها عروة ابن الزبير ، فإن مسألة تعلق الجزاء بالشرط في الآية ، ستبقى محل خلاف بين المفسرين ، يستدعي تقنين أ ومَسْطرة الجواز، وهي مهمة على المشرع أن يتكفل بها ؛ لذا لا يكفي اشتراط :توافر شرط نية العدل، وعلم الزوجتين إن كان ثمة شرط؛ بل لا بد من إحكام مسطرة التعدد، وإشراف القضاء عليها، و تبيين كيفية الإخبار القانوني للزوجة الأولى، وإلزام الطالب به خصوصا في حال وجود شرط سابق انطلاقا من أن الزوجة يمكنها أن تشترط على زوجها أن لا يتزوج عليها [المادة 28 ]. أو إلى منعه إلا بعد إذن القاضي كما فعل المشرع المصري في مشروع قانون 1926 لمنع التزويج بأكثر من واحدة إلا بعد الحصول على إذن من القاضي الشرعي..مبرِّرا ذلك بما ورد في المذكرة التحضيرية أن الوزارة لم تقصد بما شرعته أن تغير مشروعا أو تمنع مباحا، وإنما قصدت أن تمنع منكرا اتفقت جميع المذهب على إنكاره وهو التزويج بأكثر من واحدة حين لا يكون للزوج قدرة على إحسان معاشرتهن أو القيام بنفقتهن .. وتستند الوزارة في منع سماع الدعوى إلى ما لولي الأمر من منع قضاته من سماع نوع من الدعاوى مطلقا أو بشروط معينة مراعاة للمصلحة العامة". ولذا جاء نص المادة:11 المستحدثة بالقانون رقم:100 لسنة 1985 والمضافة إلى المرسوم رقم:025 لسنة 1929 الخاص بأحكام الحالة الشخصية: مجوِّزا للزوجة التي تزوج عليها زوجها أن تطلب الطلاق منه إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي يتعذر معه دوام العشرة بين أمثالهما، ولو لم تكن قد اشترطت عليه في العقد ألا يتزوج عليها.
إن توفُّر شروط التعدد لم تضع له مدونتنا آلية قضائية لاستقصائه والتثبت منه كما فعل المشرع المغربي عندما أشرك القضاء في الإشراف عليه ابتداء من حيث: إعطاء الإذن بالتعدد عند توفُّر شروطه تطبيقا للمادة 41 من مدونة الأسرة المغربية، وإشراك النيابة العامة عن طريق التدخل في مسطرة التعدد، عند غياب الزوجة المراد التزوج عليها[المادة: 43 من نفس المدونة] وصولا إلى إيداع المبلغ الذي تحدده المحكمة لفائدة الزوجـة و الأولاد داخل أجل 7 أيام و إلا اعتبر الزوج متراجعا عن طلب الإذن بالتعدد ( المادة45).
إن إقرار المبدأ دون مسْطَرته يؤدي إلى تيَهان القضاء في اعتبار اشتراط عدم الزواج و لزوميته في الفقه المالكي كما يفوت على القضاء إمكانية الإشراف عليه للحيلولة دون وقوع النزاع و لا يخوله إلا البحث في مضامينه عند وجود التعدد وبروز الخلاف حوله وهناك يقع التضارب في الأخذ بمضامين الفقه وتفريعاته لتنعكس على أحكام القضاة مما قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة.
إن عدم إعلام المرأة بالتعدد لم يرتب عليه القانون أثرا من قبيل اعتباره ضررا وبالتالي فانه عند عدم اشتراط عدمه من طرف المرأة وعدم إعماله مع قيام الزوجية الثانية يضع القاضي أمام أمر واقع لا يمكن معه الاستجابة إلى طلب التطليق، والحق انه يمكن اعتبار ذلك أي عدم إعلام المرأة بالزوجية الثانية نوعا من أنواع الضرر الذي يستساغ معه طلب التطليق؛ لهذا نرى بعض الاجتهاد القضائي يتبنى هذا الفهم ومنه: قرار المجلس الأعلى بالمغرب عدد: 439 المؤرخ في 2003.10.08 القاضي بأن"إقدام الزوج على الزواج من امرأة ثانية دون قيامه بإشعار زوجته الأولى طبقا لما توجبه الفقرة الأولى من الفصل: 30 من مدونة الأحوال الأسرة يعتبر ضررا بهذه الأخيرة يخولها طلب تطليقها منه على اعتبار أن عدم احترام القاعدة الآمرة المذكورة يؤدي إلى المسِّ بالغاية التي يتوخاها المشرع من سنِّها ويُفرغها من محتواها".
خامسا: النسب.
تنصُّ المدونة على أن أقصى أمد الحمل سنة قمرية، مثلها مدونة الأسرة المغربية خلافا للمشهور عن مالك [خمس سنوات] ، غير أنه إذا كانت هناك ريبة في الحمل بعد هذه المدة رفع المعني(؟) أمره إلى القاضي ليستعين بالخبرة الطبية، وهذا ما تنص عليه [المادة 61 ].
إن المتتبع لما كتب في أقصى أمد الحمل عند الفقهاء يجد أنهم يتفقون جميعا على أن المطلقة طلاقا بائنا والمتوفى عنها إذا وضعت لسنتين فاقل يثبت النسب اتفاقا لان الوضع تم خلال أقصى أمد الحمل عند الجميع، أما إن وضعت لأكثر من ذلك فانه كذلك يثبت عند الجمهور خلافا للحنفية الذين يرون أنها وضعت بعد أقصى أمد الحمل، ولا خلاف في لُحوق نسب ولد المطلقة طلاقا رجعيا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لاِحْتِمَال الْوَطْءِ وَ الْعُلُوقِ فِي الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ .
ويفهم من التنصيص في المادة: 61 على الرِّيبة في الحمل بعد هذه المدة أن المشرع أراد الأخذ بما يثبت الطب دون أن يهمل المشهور، وفي هذا حيطة للأنساب وأخذ بتشوُّف الشارع إلى إلحاقه.
لذا نرى بعض الاجتهاد القضائي يعتمد تارة الأمد المذكور في المادة 61 بل يعتبر "الرجوع إلى الخبرة الطبية لتحديد أمد الحمل لا محل له في الإطلاق، لأن بداية الحمل لا يمكن في الظاهر أن يترتب عليها اثر خارجي ومن هذا المبدأ قرر القانون أقصى أمد الحمل لكونه لم يكن مقطوعا بمبدئه ليصح بانتهائه لكن لاستحالة الأول افترض الثاني" .
بيد أن الإشكال المطروح هو ما إذا توفي الزوج المعني ولم ترفع الزوجة أمرها إلى القضاء وقع الوضع بعد سنة فأكثر فكيف يمكن إثبات النسب في هذه الحالة، دون اللجوء إلى الخبرة الطبية.
إن هذا يثير إشكال الإثبات ومسألة التقيد بوسائله التقليدية والاكتفاء بها دون اللجوء إلى الوسائل الحديثة (الحمض النووي) ولو كقرائن يمكن الاستئناس بها لإثبات النسب، و لا شك أن التنصيص على هذه القضية نفتقده في مدونتنا التي تنص فقط في المادة 67 ، على أنه "يثبت النسب بشهادة ذوي عدل بالقطع أو بالسماع الفاشي مع طول الزمن".مهملة هذه الوسيلة اليقينية اليوم.
كما تنص المادة 68 على انه لا ينتفي الولد عن الرجل أو حمل الزوجة منه إلا بحكم قضائي بناء على وسيلة من الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب كاللعان،و لم تبين هذه المادة الوسائل المقررة شرعا كما هو الحال في التشريعات التي اعتمدت الخبرة الطبية في نفي النسب كوسيلة من الوسائل المقررة قانونا، دون أن يتم اللجوء لها إلا بعد إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه، وكذلك صدور أمر قضائي بهذه الخبرة " كما فعل المشرع المغربي الذي توسَّع في إمكانية إثبات ونفي النسب انطلاقا من تعدد وسائل الإثبات، وبالتالي فان النفي يمكن أن يتم عن طريق اللعان أو الخبرة الطبية القضائية القاطعة [المادة:158 مدونة الأسرة المغربية].
وما من شكٍّ أن التمعن في المواد الآنفة يُبْدي عدم خوض مشرعنا في مسألة الإقرار كوسيلة ثانية لإثبات النسب بعد الفراش والذي تتجلَّى أهميته في أن ثبوت النسب بالفراش مقصور على حالة إثبات نسب الولد عند قيام العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، في حين أن هناك حالات تتطلب إثبات النسب دون أن تتوفر شروط الفراش الصحيحة ؛ فإهمال المدونة لمسألة الإقرار بالنسب في حال وجود الخطبة مثلا، وعدم اعتبارها بمثابة الشبهة التي يثبت بها ، نظرا لتغيُّر بنيتها (الخطبة) القانونية وتطور مفهومها الفقهي من مجرد "تواعد رجل وامرأة على الزواج" إلى مؤسسة يتوفر فيها الإيجاب والقبول و الشهرة ،وتتم بحضور ولي الزوجة بل وأحيانا يُعيَّن الصداق، فلا ينقصها عن الزواج إلا تخلف ركن الإشهاد على العقد، قد ظلت مسألة إلحاق ما تولد عن الخطبة من ولادة تثير جدلا فقهيا وقضائيا واجتماعيا على المستوى الوطني لم يوليه المشرع أية عناية، وبالرجوع إلى الفصل:156 من المدونة المغربية التي تنص على أنه: "إذا تمت الخطوبة وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة ينسب للخاطب للشبهة إذا توفرت الشروط التالية:اذا اشتهرت الخطبة بين الأسرتين ووافق وليها عند الاقتضاء، وإذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة،و إذا اقر الخطيبان أن الحمل منهما، وإذا أنكر الخاطب يمكن اللجوء إلى جميع وسائل الإثبات الشرعية في إثبات النسب".نجد أن القول بإلحاق حمل المخطوبة الناتج عن الخطبة بخاطبها وجيه عند قياسه على الحمل الناتج عن الزواج الفاسد الذي يترتَّب عن فقدان ركن من أركان العقد أو شرط من شروطه، ففي الخطبة توفر الإيجاب والقبول وتحققت الشهرة وحضور ولي الزوجة وقد يتم تعيين الصداق، و إنما تخلف الإشهاد مما يجعلنا أمام مجرد زواج فاسد. و لا ريْب أن المصلحة إذا كانت تقتضي أن يثبت النسب استثناءً في النكاح الفاسد حماية للنسب من الضياع ، و حماية لعرض المرأة فانه من الأولى والأفيد أن يتم عن طريق الإقرار ولنفس الغاية، و هو ما يتناغم مع المبدإ الفقهي القائل : بثبوت النسب بمجرد الظن.
سادسا: الطلاق.
تعرِّف المدونة الطلاق بأنه:" حل العصمة بواسطة الإرادة المنفردة للزوج" وبهذا يكون الطلاق شأن خاص بالزوج دون الزوجة، و لقد كان من الأولى اعتباره: حل ميثاق الزوجية ، يمارسه الزوج والزوجة ، كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء. أو يتم الإطلاق فيكون: الطلاق هو حل عقدة الزواج ، ولا يقع إلا لدى المحكمة كما في: [الفصل:29 و 30 المجلة التونسية]، فإيقاع الطلاق بإرادة منفردة دون اشرف القضاء عليه يفرغ حثَّ المدونة الزوج الراغب في الطلاق على أن يمثل أمام القاضي أو المصلح من اجل تدوينه، وتحديد لوازمه بناء على اتفاق الزوجين، احتياطا لحقوق المرأة المطلقة ، فعدم الإلزام بمسطرة - لا أقول ترتيب البطلان على عدم احترامها كما ينصُّ عليه الفصل: 30 من مدونة الأحوال الشخصية التونسية: "لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة- يؤدي إلى إهدار حقوق المرأة ومنها المتعة والنفقة، وتفاقم الأضرار الناجمة عن الطلاق الذي قد لا تعلم به أو يقع بدون سبب وجيه ودون إشراف قضائي ما يشيع نُكرانه من قبل الزوج .
إن إهمال مِسْطرة الصلح،و مسطرة الإشهاد على الطلاق، وتحديد لوازمه وتبعاته، وعدم ترتيب الجزاء على ذلك يؤدي إلى تشويه و إساءة فهم مدلول الإحسان في الطلاق أو التسريح الذي يؤكد عليه القرآن، ومن لطائف القُشيري في فهم قول الله تعالى: " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " انه : ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تُسَارع إلى إتمام الفِراق". كما أن بين المعروف و الإحسان وبين الإمساك والتسريح من اللطائف والمعاني الجليلة ما يؤكد على أن تلك الإرادة المنفردة عند إنشاء الطلاق لا تعني بحال الشطط والتعسف والفوضى والهزلية والاستخفاف بحدود الله. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
سابعا: التطليق؛
يراد بالتطليق حل العصمة الذي يوقعه القاضي بموجب أحكام هذه المدونة وتحصر دواعيه في:الضرر، و الإيلاء، والظهار،و الغيبة والفقدان، و عدم الإنفاق:
التطليق للضرر أو لسوء المعاشرة الزوجية؛ اكتفت المدونة بكون هذا الضرر لا يستطاع معه دوام العشرة الزوجية وهو الضرر البين و لو لم يتكرر الفقرة الأولى من المادة 102 ، لكنه لا يصل إلى حد الشقاق وهو ما أشار إليه خليل"ولها التطليق بالضرر البين ولو لم تشهد البينة بتكرره" وينفرد المالكية بالتطليق للضرر سَوَاء تَكَرَّرَ أَمْ لاَ ، ولو لم يصل إلى حد إثارة الشقاق وَهَل تَطلِّقُ نَفْسهَا هُنَا بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَنْهَا ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ.
و قد أدخلت المادة المذكورة سببا أخر للتطليق وهو الشقاق ويعني النزاع بين الزوجين سواء أكان بسبب من احدهما أو بسببهما معا أو بسبب أمر خارج عنهما و يجب على القاضي إعمال مسطرة الحكمين عند صرف النظر عن دعوى الضرر وتكرار التشكِّي الموصل إلى الشقاق.[فـ2؛3من المادة 102]. وبالتالي تكون هذه المادة جمعت بين داعيَّين للتطليق: هما التطليق لسوء المعاشرة(الضرب الشتم الإهانة)، والتطليق للشقاق.
وفي اشتراط ثبوت الضرر في النوع الأول حفاظ على حقوق الزوج كما أن في إعمال مسطرة الحكمين عند ما لا تستطيع الزوجة إثبات سوء المعاملة حفاظ على حقوقها عندما لا تستطيع إقامة البينة على ما ادعت خصوصا أن هذا النوع من الضرر غالبا ما يتم في غيبة الشهود و تكتنفه صعوبة الإثبات. وهو إشكال يزداد كلما انتقل المجتمع من أهلي إلى مجتمع مدينة.
إن إطلاق لفظ الضرر في المادة جريا على مبدإ التوسع في الأضرار الذي تبناه المالكية دون غيرهم يعني شموليته لجميع أنواع الضرر التي لا تستقيم مع الحياة الزوجية، و من أولاها في نظري العيوب الجنسية القديمة أو الحديثة التي تحول دون تحقيق المقصد الأول من الزواج الذي هو الإنجاب كالاعتراض والعقم و الجَبِّ و الخِصاء والأمراض الجنسية المزمنة، وغيرها من الأضرار والعيوب التي تحول دون استمرار العشرة بين الأزواج.
التطليق للغيبة؛ تنطلق فلسفة المدونة من أن الغيبة قد تنتج نوعين من الأضرار: ضرر فراش، وضرر عدم النفقة، ويستند المشرع في النوع الأول على نظرة المالكية إلى استدامة الوطء وأنها حق مطلق للزوجة لان حقها في الوطء واجب مطلقا خلافا لما ذهب إليه الجمهور من أن استدامة الوطء من حق الزوج؛ لأنَّ حَقَّ الزوجة فِي الْوَطْءِ قَضَاءٌ يَنْقَضِي بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَا، مَهْمَا طَالَتْ ، وَتَرَكَ لَهَا مَا تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِذَلِكَ.
وفي هذا النوع يكون الْغَائِبُ هُوَ : مَنْ غَادَرَ مَكَانَهُ أكثر من سنة لِسَفَرٍ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ ، وَحَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ، فان أمكن الاتصال به منحه القاضي أجلا و إعذارا، أو لم يمكن الاتصال به عين القاضي وكيلا عنه وأعطاه تلوما باجتهاده فإن لم يحضر في ذلك الأجل طلق عليه بلا إعذار وبلا ضرب أجل [المادة: 106].
و بما أن المشرع أوكل الآجال و التلومات إلى اجتهاد القاضي فان العمل القضائي السائد هو منح اجل شهر المنصوص عليه في التحفة: وزوجة الغائب حيث أملت \ فراق زوجها بشهر أجلت.
بل إن بعض التشريعات تنص صراحة على هذه المدة حيث نص الفصل 40 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية على انه:" إذا غاب الزوج عن زوجته ولم يكن له مال ولم يترك لها نفقة ولم يقم أحد بالإنفاق عليها حال غيابه ضرب له الحاكم أجلا عدة مدة شهر عسى أن يظهر ثم طلقها عليه بعد ثبوت ما سلف وحلف المرأة على ذلك".
والظاهر الذي يفهم من المدونة أن الطلاق في هذا النوع طلاق بائن رغم أن المدونة لم تصرح بشيء في ذلك إلا أن إطلاقاتها تفيد ذلك، فقد نصت المادة: 101 على انه:" يعتبر كل طلاق أصدره القاضي بائنا إلا إذا كان عن إيلاء أو عسر بالنفقة" وهذه المادة مأخوذة من تقعيد ِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ القائل:" إِنَّ كُل طَلاَقٍ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ طَلاَقٌ بَائِنٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمُولِي وَطَلاَقَ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ" ما يدل على أن الطلاق في هذا النوع بائن بينونة صغرى. وأما النوع الثاني: فهو الغيبة المنتجة لضرر عدم النفقة والتي تخول الزوجة حق طلب التطليق إذا غاب الزوج و لم يوفر لها نفقة، فإن أثبتت ذلك أبلغ القاضي الزوج وأجله ستة أشهر، فإن وفر الزوج النفقة أثناء هذه المدة سقطت الدعوى ورجعت الزوجة عليه بما أنفقت على نفسها،و إذا انقضى الأجل المذكور ولم يوفر الزوج النفقة حلفت الزوجة على دعواها وطلقها القاضي طلاقا يمكن للزوج ارتجاعها بعده وفقا للمادة 109من مدونتنا.
ويكون الطلاق في هذه الحالة رجعيا لِلزَّوْجِ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا هُنَا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَنْ يَجِدَ الزَّوْجُ يَسَارًا لِنَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ النَّفَقَة الضَّرُورِيَّة الَّتِي فُرِّقَ مِنْ أَجْلِهَا. قال خليل:"وله الرجعة إن وجد في العدة يسارا يقوم بواجب مثلها"،وهو ما سارت عليه المدونة.
إن التفريق بين نوعي الغيبة لابد معه من التفريق بين نمطي الطلاق الصادرين عن القاضي، وهذا ما يثير إشكالية طبيعة الحكم الصادر عن القاضي هل هو غيابي أم حضوري أم شبه حضوري خصوصا إذا لم يمكن الاتصال بالزوج، مع العلم أن المادة 190 من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية تنص على انه:" يجوز الطعن بالمعارضة في الأحكام الصادرة غيابيا في أجل خمسة عشر يوما تبدأ من تاريخ تبليغ الحكم. و إذا لم يمثل المدعى عليه فإن الحكم يصدر غيابيا إذا كان القرار نهائيا وكان الاستدعاء لم يسلم للشخص نفسه".
وإذا لم يقم بالمعارضة بعد انتهاء الأجل إذا كان الحكم غيابيا يسري الأجل من انتهاء أمد الطعن بالمعارضة المنصوص عليه بالمادة 190 أدناه. المادة: 168 فـ3.
ونسجل هنا التناقض الحاصل بين المادتين[168\190 من مسطرة الإجراءات المدنية] حيث أنه لا يمكن أن يوصف بالغيابية إلا الحكم النهائي ومعلوم أن الحكم النهائي لا يقبل إلا النقض، ومعروف أن أحكام التطليق أحكام ابتدائية ، وبالتالي في حال الغيبة لا يمكن أن يصدر الحكم إلا غيابيا مع العلم أن أحكام محاكم الدرجة الأولى ابتدائية وقد نصت تلك المادة على أن الأحكام النهائية فقط هي التي توصف بالغيابية فقط.
إن هذا الإشكال يجعل حكم القاضي بحل العصمة غير حاسم ولا رافع للخلاف، بالإضافة إلى مشقة التقاضي وعدم جدوائية الفصل من طرف المحاكم الابتدائية في التطليق للغيبة للارتباط بالعُدَد ما دام الحكم قابلا للطعن بالمعارضة أو الاستئناف.
صحيح أن هناك قاعدة رسخها المشرع في الفقدان وهي انه إذا قدم الزوج ووجد زوجته قد تزوجت بعد مراعاة الترتيبات القانونية ودخل بها الزوج الثاني فإنها لا تعود إليه [المادة: 107فـ ثانية]، كما أنه في إلزام المشرع للقاضي بضرورة تعيين وكيل غيبة إذا لم يمكن الاتصال بالزوج الغائب حفظ لمبدأ الحضورية لكن تعذر وجود الوكلاء في كثير من الأحيان وغياب وسائل ضامنة من عنوانين يمكن معها أن يصدر الحكم حضوريا يجعل من الضروري إيجاد قضاء أسري مختص يكون معه صدور تلك الأحكام عن تشكلة جماعية يمكن أن تصدر معه تلك القرارات المتعلقة بالطلاق بشكل نهائي فلقد آن الأوان أن تكون بعض قرارات قاضي الأسرة غير قابلة للاستئناف أو التعقيب كهذا النوع، وكالأمر بالتزويج ،والأمر بتوقيف الزوجية الثانية و، القرار المحدد لمجريات الطلاق الرضائي، وقرار الحيلولة، وتحديد النفقة يغني عن اللجوء إلى درجة أخرى من درجات التقاضي، أو أن يلزم المشرع قضاء الاستئناف بإصدار تلك القرارات المتعلقة بالنزاع الزوجي على وجه الاستعجال .
ج\ التطليق لعدم النفقة؛ من المعروف أن للزوجة الحق في طلب التطليق من زوجها المعسر أو الممتنع عن إجراء النفقة عليها، لكن حالات الامتناع عن النفقة في حال الحضور تنتج أثرا جزائيا أهملته المدونة كإحالة الملف عند تسجيل الامتناع عن الإنفاق إلى النيابة العامة التي يجب ان تكون طرفا أصليا لتحريك الدعوى العمومية من أجل تطبيق المقتضيات الواردة في المادة: 288 من القانون الجنائي و التي تنص على انه:يعاقب بالحبس من عشرة أيام إلى سنتين وبغرامة من 5.000 إلى 20.000 أوقية أو بإحدى العقوبتين."كل من امتنع من إعطاء النفقة الواجبة عليه للولد أو الوالد، مع القدرة عليها، يعاقب بنفس العقوبة الواردة في الفقرة السابقة". و قد أحسن المشرع التونسي حين نصَّ في الفصل:53 مكرر على أن"كل من حكم عليه بالنفقة أو بجراية الطلاق فقضى عمدا شهرا دون دفع ما حكم عليه بأدائه يعاقب بالسجن مدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وعام وبخطية من مائة دينا (100 د) إلى ألف دينار (1000د. والأداء ... و أنه يتولى صندوق ضمان النفقة وجراية الطلاق دفع مبالغ النفقة أو جراية الطلاق الصادرة بها أحكام بأنه تعذر تنفيذها لفائدة المطلقات وأولادهن من المحكوم عليه بسبب تلدَّده وذلك وفقاً المنصوص عليها بالقانون المُحْدِث للصندوق. ويحل هذا الأخير محل المحكوم لهم في استخلاص المبالغ التي دفعها.
فهذه المادة أوضح مما نصت عليه مدونة الحماية الجنائية في المادة 70 من:قانون الحماية الجنائية للطفل حين نصت فقط على المتابعة دون تحديد البدائل في حال عدم دفع النفقة المقضيِّ بها .
ومن هنا نرى أن إنشاء صندوق الأسرة يعد ضرورة ملحة لدفع ما حكم به واستخلاصه من المحكوم عليهم وهذا تطبيق أمين لطابع الاستعجال الذي يكتنف النفقات.
د\ التطليق للحبس. من حيث المبدأ تتضارب آراء الفقهاء حول التطليق للحبس فالجمهور يرون عدم جواز التفريق على المحبوس مطلقا مهما طالت مدة حبسه لأنه غائب معلوم الحياة أو لان غيابه لعذر، وذهب المالكية إلى جواز التطليق على المحبوس إذا طلبت زوجته ذلك وأثبتت الضرر وذلك بعد سنة من حبسه لان الحبس غياب وهم يقولون بالتطليق به مطلقا لعذر أو بدونه.
وقد ذهب ابن تيمية في فتاويه - باب عشرة النساء - إلى القول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن يتعذر انتفاع امرأته له، إذا طلبت الفرقة كالقول في امرأة المفقود.
لكن المدونة لم تول هذه المسالة أي اعتبار ، ومع هذا السكوت لا يبقى إلا اعتماد الإطلاق الوارد في المادة: 106 منها، إن هذه المسألة تثير إشكاليتين: الأولى أن هذا المحبوس يمكن الاتصال به من الناحية النظرية إما بواسطة مسير السجن أو كما نقترح بواسطة قاضي تطبيق العقوبة، لكن لا يمكنه الإقامة مع زوجته ولا نقلها إليه، وان افترضنا وجود حالة غير منظمة تنظيما دقيقا يطلق عليها" الخلوة الشرعية في المعتقلات" فإذا ما نظرنا إلى أن العلة في التطليق في الضرر ترجع إلى حق المرأة في الوطء عند المالكية التي يمكَّن منها الزوجان فان ذلك مانع للتطليق في هذه الحالة لانتفاء موجبه.
والثانية أن اعتبار الإدانة النهائية الصادرة في حق الزوج موجب للمطالبة بالتطليق استنادا على الأضرار المادية و المعنوية التي تسببها الإدانة، وتماشيا مع الصياغة الموسعة للفقرة الأولى من [المادة 102 ]، بالإضافة إلى انعدام النفقة والمنفق خصوصا في غياب مساطر بديلة لتمكين السجناء من العمل داخل السجون وتمكينهم من جزء من مردود خدمتهم التأهيلية لينفقوا به على من تجب عليهم نفقته، بين هذا وذاك يظل التساؤل مشروعا و مطروحا، هل هذه الغيبة مدعاة للتطليق أم لا؟.
وكحل لهذا الإشكال نرى الجمع بين استمرار الزوجية في حق الزوجة التي تطلب التطليق استنادا على ضرر الفراش عندما تتوفر الخلوة المشروعة التي على قاضي تطبيق العقوبة إذا ما فعِّل أن يشرف على تنظيمها مما تنتفي معه وجاهة دعوى الضرر المستند للفراش، فيما يمكن إنهاء الرابطة الزوجية إذا استندت الزوجة في طلبها على الضرر المعنوي الناتج عن الإدانة خصوصا في المجتمعات التي تنظر إلى المدان نظرة سلبية لا انه ضحية ظروف معينة أدت إلى جنوحه.
و لقد أحسن المشرع المصري حين نص في المادة:14 من المرسوم رقم:25 لسنة 1929 على ان:لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيا بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنوات فأكثر أن تطلب من القاضي بعد مضي سنة من حبسه التطليق عليه بائنا للضرر و لو كان له مال تستطيع الإنفاق منه". فقد استفاد المشرع المصري مما ذهب إليه المالكية من جواز التطليق على الغائب إذا طالت غيبته سنة فأكثرلسد هذا الخلل وعلاج الهوة الاجتماعية ، لمَّا لم تسعفهم آراء الحنفية في هذا المجال.
ثامنا: النفقة.
تضع المدونة ثلاثة أسباب للإنفاق هي: الزوجية والقرابة والالتزام، والذي تعنى به هذه الإثارة هو الموجب الأول و عليه تنص المدونة على أن نفقة كل إنسان في ماله إلا الزوجة فنفقتها على زوجها [المادة 140] فلا إشكال.
لكن الإشكال هو عدم تقدير النفقة الذي تركته المادة: 144 موكولا إلى القاضي استنادا إلى المبدأ العام [وكل ما يرجع لافتراض\ موكل إلى اجتهاد القاضي]، اعتمادا على الوسع والحال لقول خليل:"وقدرت بحاله.." وهنا على القاضي أن يعتمد على معطيات دقيقة.
بيد أن عدم وجود معايير دقيقة يعتمد عليها القاضي في عملية التقدير يجعل اجتهاده شخصيا لا ينطلق من معايير موضوعية وهو ما على العمل القضائي اليوم تجاوزه حفاظا على الحقوق، لذا رأى المجلس الأعلى للقضاء في المغرب في قراره عدد 471 بتاريخ:06\10\2004 أن على المحكمة أن تبين العناصر التي اعتمدتها عند تحديدها للنفقة وتوضح الحجة التي استندت عليها لتحديدها دون الاكتفاء بتعليل عام من قبيل إن مبلغ النفقة المحكوم به مناسب لكلا الطرفين ولا غبن فيه"، ويكون ذلك عن طريق القيام بتقرير دقيق عن وضغية الأسرة يرفع إلى القاضي.
كما أن من أسباب انقضاء الالتزام بنفقة الزوجة حالة النشوز الزوجي طبقا للمادة 150 ،و قد استثنت المدونة من ذلك الحامل حيث لا تسقط نفقتها [المادة 151] ، ومعلوم أن النشوز لم تعرِّفه المدونة، ولكن الشائع تعريفه بما تبنَّاه المالكية والشافعية والحنابلة بأنه خروج الزوجة عن الطاعة الواجبة للزوج"، وبالأخص ترك بيت الزوجية الذي يعد من اكبر تجليات النشوز، و انطلاقا من هذا التعريف الفقهي للنشوز الذي يحصره في المرأة فقط جاء نص [المادة:288 من القانون الجنائي] مجرما ومعاقبا عليه ، مع أن بعض الفقهاء يقول بِأَنَّ النُّشُوزَ كَمَا يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ . كالشَّرْقَاوِيُّ حيث قال: إِنَّ النُّشُوزَ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَمِنَ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ إِطْلاَقُ النُّشُوزِ فِي حَقِّ الرَّجُل". والذين يتبنون هذا الفهم يأخذون بالاعتماد عليه تجلي النشوز في ترك بيت الزوجية وبالتالي تشمل الزوج المقتضيات الواردة في ترك الأسرة. في قانون الحماية الجنائية للطفل:[ المواد:.....]
وعلى كلٍّ فان النشوز مسقط للنفقة والسُّكنى وهذا ما ذهب إليه جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادٌ وَالأْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لأنهم ينطلقون من أن النفقة إنما تجب في مقابل التمكين بدليل أنها لا تجب قبل الدخول.
إن العمل القضائي السائد اليوم هو أن ترك الزوجة بيت الزوجية الناتج عن دعواها في الإضرار سواء عن طريق سوء المعاشرة أو الشقاق أو الضرر البين الذي بسببه تترك المرأة بيت الزوجية نتيجة سوء التفاهم ورفض طلبها لعدم وجاهته حينها تحكم المحاكم باستمرار الزوجية باعتبار أن النشوز معاقب بموجب [المادة 288 من القانون الجنائي] في بندها الأول الذي ينصُّ "وكذلك تطبق العقوبة المقررة في البند الأول من هذه المادة [وهي الحبس من عشرة أيام إلى سنتين]،على المرأة الناشز التي تغادر بيتها بدون مبرر"، وبالتي لا يمكن أن تحكم بها المحاكم المدنية المَغْلُولة عن الدعوى الجزائية، فتحكم باستمرار الزوجية أو رفض دعوى الضرر وتأمر الزوجة بالرجوع إلى بيت الزوجية طائعة ،وإلا اعتبرت ناشزة، وتترك مسالة المتابعة الجزائية للنيابة العمومية التي لها واسع النظر في تحريك دعوى النشوز بعد شكاية الأزواج من النَّواشِز.
إن تلك المادة التي جرَّمت وعاقبت النشوز يفهم منها تعليق قيام الركن المادي له على ترك بيت الزوجية بدون مبرر، وبالتالي فسقوط النفقة على هذا لا يتأتى إلا بعد الإدانة بالنشوز من قبل محكمة الجزائية بعد رفض دعوى الضرر والحكم باستمرار الزوجية لعدم إثباته.
وفي كل الحالات يجب على المحكمة أن تجري تحريات دقيقة لمعرفة سبب ترك بيت الزوجية قبل اتخاذ القرار، وهو ما اقره الاجتهاد القضائي حيث قرر المجلس الأعلى في المغرب في قراره عدد: 300 المؤرخ في 2003.6.25 بأنه" يتعين على المحكمة حين يتمسك كل طرف بموقفه بشأن تواجد أو عدم وجود الزوجة ببيت الزوجية دون دليل أن تجري بحثا في النازلة لتحديد مكان تواجد الزوجة خلال المدة المتنازع في النفقة بشأنها، وتبت في القضية على ضوء نتيجة ذلك".
تاسعا: الخلع.
لما جعل الشارع الحكيم الطلاق بيد الرجل وبإرادته المنفردة ما لم يتعدَّ حدود الله، أعطى الزوجة حقَّ مفارقة زوجها متى كرهته في كل وقت وفي كل حال؛ لسيء خُلق، أو سوء خَلْق، مما يُفضي إلى عدم إقامة حدود الله:.. وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ [الآية:229 سورة النساء] فترفع أمرها إلى القاضي وتدفع ما أخذت من صداق أو بدل،"أتردين عليه حديقته" كما في حديث قصة امرأة ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري في البخاري،فداء لها، و على هذا يكون الخلع فراق الزوجة على مال.
إن الفقه مختلف في أخذ ما زاد على الصداق اختلافا بسطه الجصَّاص في الأحكام، بين قائل بكراهة اخذ الزيادة وهو المحكي عن علي كرم الله وجهه، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وسعيد بن جُبير ، و مجوِّز لذلك وهو المروي عن عمر وعثمان و ابن عباس ومجاهد ، و مفرِّق في سبب النشوز كأبي حنيفة و زُفر بين ما إذا كان النشوز منها فيجوز اخذ ما أعطاها ولا يزيد، وان كان منه فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا، وإن جوز ابن شبرمة المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه .
لكن ابن بطال أجمل الخلاف المتقدم بقوله: ذهب الجمهور إلى انه جائز للرجل أن يأخذ أكثر مما أعطى، وقال مالك لم أر أحدا ممن يُقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق". فبان لنا سبب ورود العوض منكَّرا في المدونة حين نصَّت المادة:92 على أنه: يصح الطلاق بعوض من المرأة أو من يَنوب عنها للمطلِّق، أو بإسقاطها حقا لها عليه".
ولقد قيد المشرع هذا البدل الخُلْعِي بانتفاء مضارة المرأة في المادة 93: "إذا ثبت للقاضي أن المرأة إنما قبلت أن تُخالع زوجها لتنجو من ضرره أو سوء معاشرته فإن الطلاق ينفذ ويعاد لها ما بذلته " وفي هذا تبنٍّ لرواية ابن وهب عن مالك قال :إذا علم أن زوجها اضر بها وضيق عليها وانه ظالم لها قضي عليها الطلاق ورد عليها مالها ، وتفضيل لها على ما رواه بن القاسم من: انه يجوز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، و إن كان النشوز من قبل الرجل حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت به ولو لم يكن في ذلك ضرر منه لها" .
وتبقى الفقرة الثانية من المادة:92 من مدونتنا "إذا وقع الخلع على الوجه الممنوع مضت الفرقة ولم يكن للزوج شيء" موهمة تحتاج إلى بيان المقصود منها وهو الاختلاع بما لا يلزم، نجليها بما ورد في نوازل الورزازي من سؤال عن امرأة اختلعت من زوجها على شرط أن لا تتزوج مدة معينة هل يلزمها الشرط، فأجاب: قال الإمام ابن رشد من اختلعت من زوجها على مال وعلى أن لا تتزوج إلا بعد مدة معينة وإن تزوجت قبلها غرمت كذا وكذا من المال، أن الخلع صحيح والشرط باطل فان تزوجت فلا يلزمها شيء" .
ومن المعلوم أن الخلع سببه في الغالب شقاق أو نشوز وهنا تثور إشكالية المرأة الناشزة أو الرجل الناشز الممتنعين فهل يجوز جبرهما على الخلع وهو ما أغفلته المدونة وقد تضاربت آراء فقهاء هذا القُطر قديما فيه ويروق لنا ما ورد في نوازل العلامة ابن الأعمش جوابا على سؤاله عن امرأة نشزت زوجها وهو يحبها وبذل لها مقدوره في مرضاتها فلم ترجع وطلب أهلها أن يفدوها من الزوج فلم يقبل، فأجاب بان المرأة ظالمة وعلى المسلمين الإصلاح بينهما بما قدروا فان تعذر الإصلاح فلا يحل للمسلمين أن يتركوها على هذه المعصية فيجب على الزوج قبول الفداء لكن بما أحب وأمكن ويطلقها وإلا فتطلقها جماعة المسلمين.
ولا يكدِّره تعقيب المحجوبي (أنْبُويْ) في مجموعه بما قاله ابن هاشم الغلاوي جوابه التعقيبي:"فأين ذلك من فتوى بعض الطُّلْبة بلزوم ذلك مطلقا أحب الزوج أم كره فيما إذا نشزت المرأة والله اعلم"، و ان رجحه العلامة محمد البشير بن الحاج الايديلبي في نوازله بدل ما ذهب إليه شيخه ابن الأعمش في هذه المسألة. بالنظر الى استشراء تعليق العِصم واستحكام التَّعنُّت فيها وكثرة التشكِّي والشقاق الشقاق والضرر، وتطاول النزاع و تشعب القضايا ما يوجب الأخذ بخلاف المشهور هنا إنصافا لأطراف النزاع وحفاظا على مصلحة الأطفال واستقرار المجتمع.
وكخلاصة فان في تنصيص هذه المدونة في مادتها 311 بتقييد الرجوع لتفسير مدلولاتها عند الإشكال إلى مشهور مذهب مالك، تضييق لواسع كما أن في تنصيصها على الرجوع فيما لم ينص عليه فيها إلى مشهور مذهب مالك، تفويت وتعطيل للتخريجات الفقهية الرائقة التي دبَّجها علماء هذا القطر والمغرب الأقصى وارتضوها وقضوا بها مخالفة لمشهور ؛بل و شاذة في بعض الأحيان، ما يتطلب الأخذ بها والاستفادة منها لمعالجة جميع الملاحظات الآنفة.
بل إن إعادة تقنينها من جديد بما يتماشى مع الشريعة كمفهوم شامل لا بمذهبية مكبِّلة، واعتمادا على ثرائها الفقهي لتحقيق مقاصدها ومنها المصلحة وفق معايير التجديد يما يحقق بناء الأسرة و بالنظر إلى قابلية وصلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، يفرض علينا اليوم إعادة الصياغة المتعقِّلة لمقتضيات مدونتنا بعد تقييم أداء القضاء الأسري.
لذا لابد من: ضبط المساطر، وتقنين الحلول ، و تأسيس قضاء اسري متخصص فعَّال وسريع، والاستفادة من ثراء الشريعة الإسلامية، وتوسيع قاعدة الاجتهاد القضائي، لإدراج الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من خلال الاستفادة من اجتهادات الفقهاء و عمل القضاة دون أن نخرج على ثوابت ديننا وتراثنا وقيمنا الأخلاقية، فهي حاصل الأمر ، و أوله و آخره.
انتهى
نواكشوط:23/04/2018
الدكتور. هارون ولد عمار ولد إديقبي
رئيس محكمة ولاية نواكشوط الجنوبية.