كثيرا ما نسمع في القصص عن العجائز والأكواخ ، وآلام العوز وضيق ذات اليد وانعدام الحيلة ، ونسمع عن المحسنين ودور المسنين ، وعن التكافل والتعاون ، والكرم والبخل والشح ، وإكرام الجار وأذيته وعدم الاكتراث بحياته وما يقاسيه .
القصة التي سأنشر بين يديكم حقيقة ، ولا زالت واقعا يصرخ في وجه حياتنا البائسة العديمة الرحمة ، وتبرهن عن خلو قلوبنا من العطف ، وضياعنا في دهاليز المادية ، متناسين الدين والنخوة والقيم والأخلاق .
إنها قصة عجوز في المائة ، لا ولد لها ولا بنت ، ولا قربب ولا عصب ، تسكن في وسط ثاني مدينة من الوطن ، عمياء يتساوى لديها الليل والنهار ، مقعدة لا تستطيع تحريك أعضائها ، نحيلة بلي جسمها بمقاساة الجوع والعطش والنسيان ، وفقدت جل سمعها ، مرمية في كوخ مفتوح من جميع الأطراف في كل الفصول، وليس لها غير دعوة في جوف الليل ، و جارة تجلب لها الماء الذي يعبث به الصبيان، و بقيت المسكينة وحيدة مع مرضها وعجزها وعوزها.
جئنا إلى الخباء البالي بعد صلاة المغرب ، فوجدناها في خلوتها ، وبأصوات مرتفعة استطعنا أن نُفهمها أننا بشر ، و عندما سألتها عن حالها قالت : وما ظنكم بعجوز عمياء مقعدة ، ترتجف يداها من الوهن ، ولا قريب لها ولا معتني .
انهمرت دموعي و أجهشت بالبكاء ، لقد اختصر المشهد ضياع المجتمع وذوبان القيم والأخلاق .
لن تتمكن المسكينة من التصويت للمنتخب ، ولا إنشاء وحدة قاعدية للحزب الحاكم ، ولا من التزلف لمسؤول لذلك لا مكترث ولا سائل عن حالها.
أعطيناها بعض البسكويت فطفقت تلتهمها بسرعة في مشهد يبرهن على أقصى درجات السغب ، و انفتحت أساريرها ، تحدثت عن ماضيها ومجالستها للعلماء وقدرتها على القيام بشؤونها.سألناها : هل يأتيك أحدهم بالعشاء أو الغداء ، فابتسمت و قالت ومن يهتم لأمري.
تبقى المسكينة في عزلتها الأشهُر بعد الأشهر ، ولم تعرف طعم اللحم ولا نكهة الشاي ,قضينا وقتا مع المسكينة ، و انبسطت أساريرها للحديث ، وأمضت دقائق في راحة بال .
لست أصدق أنه في مدينة "كيفة" بما تحمله من ثقل حضاري واجتماعي ، وهذا الكم الهائل من العلماء والرجال العظام ، والوجهاء والأطر ، والمثقفين والمجتمع المدني ، و الصحافة والمنظمات الخيرية ، يمكن أن تحتضن مثل هذه الإنسانية الحرجة ، و كيف يمكن أن يتواجد كل هذا النسيان.
كتبتها صرخة في جدار الصمت الذي يحيط بهذه القضية ، و اعلم ان القلوب الرقيقة لا زالت موجودة ، لكن الإرادة المسلوبة لا تصنع الأحداث ، فأفيقوا لقد طفح الكيل و بلغ السيل الزبى.
إسلمو أحمد سالم