العافية والأمان من الأمور التي يمن به الخالق على أهل الأرض، وهي مزية يفتقدها من لا يقدر معنى السلم وأخواته من الرخاء والسكينة والعيش الكريم.
والمتتبع للتاريخ لا يمكن أن يجد أمة شهدت نهضة وتطورا في ميادين عديدة دون أن تكون حاصلة أصلا على مزية العافية والسلم الذي ظل مطلبا للمتنورين من القادة وأصحاب القرار عبر الزمن لدرايتهم بما يترتب عليه من ضبط للأحوال واستقرار واستتباب للأمن ومن إصلاح لشؤون الحاكم والمحكوم، ولن يحصل ذلك إلا بأكبر قدر من العدالة في توزيع الثروة وأخذ الحقوق لأصحابها وإحساس الجميع أنه معني بكل ما يدور في البلد.
وفي موريتانيا ظلت السلطات المتعاقبة تراهن على استتباب الأمن وانتشار السلم الأهلي كرافعة لوضع أهم المشاريع المعنية بتطوير البلد وظل هذا الطرح يترنح بين التنظير والعجز عن ملامسة لب المشكل ، وفي هذا الإطار تقاربت الخطط والاستراتيجيات من حكومة لأخرى ومن نظام لآخر إلا أنها مجتمعة ظلت بعيدة كل البعد عن حقيقة المعضلة ، بيد أنه في الآونة الأخيرة أصبح الطرح أكثر جدية ووضوحا حيث اتجه الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى أصل المشكل ومسببه الأول، فتم علاج مخلفات الرق وتسوية تبعات الإرث الإنساني ووضع برامج هادفة وشجاعة لمكافحة الفقر وتم تقريب الإدارة من المواطن مع ضبط الحالة المدنية الذي شكل ولادة حقيقية لموريتانيا الجديدة، ووضعت مقاربة نوعية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وتحسنت العلاقة مع المحيط الإقليمي والدولي...إلخ.
ولأنه تبنى المقاربة الأكثر واقعية بتوجهه إلى الفاعل الحقيقي في مسار المجتمع وماكنته الحقيقية التي تتحكم في بوصلة حراكه، من رجل أمن وقاض و أستاذ وإمام وطبيب ومواطن عادي...، من أصحاب القرار والرأي في المجتمع الموريتاني الحديث المتطلع إلى مستقبل أكثر بريقا ووثوقية، ولأن هذه النخب أكثر وعيا من غيرها بتجليات المرحلة وتداعيات الانتقال إلى المستقبل كان لزاما عليها المشاركة بجدية في حفظ الموجود من ثقافة السلم بين المجتمع وتعزيز الأواصر الممتدة عبر التاريخ بين مكوناته وقواه المختلفة، لتضيف إليها ما استجد من حاجة للوئام ومواجهة أنواع الدعايات وأصحابها المتفننين في سكب أحماض التفرقة وتفتيت الروابط الممتدة عبر الحقب .
هي مواجهة سوف تستدعي منا التسلح بثقافة المجتمع والوعي بخطورة وحساسية المستجدات بكافة أبعادها حتى نتمكن من نشر ثقافة السلم بين منظوماتنا الثقافية والاجتماعية والفكرية ونتعهدها من الانزلاق والزلل لنسلمها للأجيال القادمة ناضجة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهي فرصة يجب على نخبنا ألا تتركها تضيع دون أن تصل بها إلى بر الأمان ، فلا ينبغي والحالة هذه أن نغتر بتجارب لم تخلف سوى التشرذم والقتل، تجارب أول من تنكر لها هم مروجوها الأول، حين اكتشفوا أن الذين انطلت عليهم حيلة المقولات المستوردة فهموا معنى الضياع والندم، معنى أن تُجر إلى ما تجهل عاقبته، معنى أن تُضيَّع من أجل أفكار بعض المشاكسين الشيطانية وبعض هواة الريادة والشهرة.
فمن يقوده الطموح وحب التميز إلى تصرف لا يصب في لملمة الجهود والقوى الوطنية ومن لا يخدم وطنه إلا لأجل مصلحة آنية، لا يمكن عده من النخبة المسؤولة التي يراهن عليها الوطن والمواطن في مجتمع تقليدي لا زال يتلمس خطواته بحذر من أجل الدخول في مستقبل آمن وحصين، وهنا يظل الهدوء، والسلم، والرشاد، والاستقرار، والمسؤولية أهم مكسب نراهن عليه في هذا الزمن المشحون بالصراع والهرج والدم!!.
فالأخطار المحدقة تتطلب منا رص الصفوف بدل التشتت و القلق الذي استدعاه فتح الطرق لاستيراد تجارب فاشلة، في مجتمعاتها وفاشلة في المنظومات التي أنتجتها، لم تأخذ بعين الاعتبار واقع هذا المجتمع وخصوصياته الثقافية والحضارية!!، تجارب جرت ويلات وويلات طالت الحرث والنسل، فكم أفنت عاتياتها من أمم كنا نظنها قوية وحصينة؟!!، وكم دمرت زلازلها الحضارية من منظومات كانت تتظاهر بقوة القوام والانسجام ؟!! فقط لم تتنبه نخبهم قبل فوات الأوان فضاعوا وضاع كل ما بنوا !!!.
حفظ الله بلادنا.
د.محمد الأمين شامخ/ أستاذ جامعي