قد يقيس بعضنا تقدم دولة ما , وما وصلت اليه من مظاهر التحضر والرقي بمدى علوّ عماراتها واتساع شوارعها وتلوين أضوائها واستيراد أفخر السيارات والمعلبات وأكثر الألبسة أناقة وأجمل العطور رائحة , لكن التطور في البُني التحتية ـ مع أهميته ـ اذا لم يسبقه ويواكبه تطور في البنية الفوقية يظل بلا فائدة وبلا مردودية وقد يعطي نتيجة عكسية.
إن البنية الفوقية تعني في ما تعنيه : الاعتناء بالبشر قبل الاعتناء بالحجر , وذلك من حيث الاهتمام بالتعليم الراقي , وإعادة تشكيل العقل من جديد من خلال النخب الحرة المثقفة المتميزة والمبدعة , وأيضا تطبيق مناهج التربية القوية والتعليم رفيع المستوى حتى نُخَرّج أجيالا مبدعة تخطط وتبني وتحافظ على البنية التحتية سليمة , فما الفائدة من بناء ناطحة سحاب مليئة بالاوساخ والحشرات , وما الفائدة من وضع مئات إشارات المرور الضوئية عند كل تقاطع ومفترق طرق اذا كان الجميع لا يحترم وجودها ولا يلتفت اليها , واذا كان السائق يتوقف حيث يحلو له , سواء في منتصف الشارع أو في عرضه , وما النتيجة من بناء أفخم الجامعات والمعاهد اذا كانت المناهج متدنية والأساتذة أكثر جهلا من طلابهم؟
يقول أحد الاكادميين : إن الذي يخلق البنية التحتية في البلاد هو ذاك الذي امتلك البنية الفوقية , والاخيرة أصعب في تحقيقها من الأولى، لأنها غير قابلة للشراء والاستيراد او للاستهلاك الرخيص ,انها باختصار : صناعة للقوى البشرية الفاعلة بما تمتلكه من خبرات وثقافة وتكوينات وتجارب وذهنيات وافكار وابداعات ومنتجات في كل ميادين الحياة وحقولها.
ما الذي جعل اليابان المدمرة المهزومة المهزوزة تنهض من جديد وتبلغ القمة في التطور والازدهار , وما السر وراء ما وصلت اليه ماليزيا واندونيسيا ودول نمور آسيا من قوة اقتصادية وصناعية؟
انه أولا وأخيرا الاهتمام بالبنية الفوقية والاستثمار في البشر قبل الحجر, ونتيجة لوجود برامج وخطط وتصميم وارادة سياسية جعلت الانسان محور اهتماماتها ونقطة انطلاقها الى القمة , وقد تحقق ذلك في ظرف زمني قياسي مع أن معظمها لا يملك موارد تساعده , فلا نفط ولا معادن لديها , لكن العلم ,والعلم وحده هو الذي يستطيع أن يعوض كل نقص , وأن يسد كل فراغ.
فيجب أن تتغير مستوىات النخب والفئات والاحزاب السياسية التي لم تعرف في تجمعاتها الا الانتهازية والمحسوبية والمنسوبية والوساطة والقبلية والقرابة الاجتماعية والعلاقات الشخصية.. ولم تعرف في خطابها الا الشعارات الجوفاء الاصلاحية او صناعة الاوهام الثورية باسم التغيير والانقلابية والحداثة .
وفي الختام أقول :كفانا شعارات جوفاء ومهاترات سياسية تعيق تقدمنا وازدهارنا وتعيدنا سنين الى الوراء , ولنتجهْ جميعا ـ موالاة ومعارضة ـ الى البناء وامتلاك ناصية العلم ,والعمل على صناعة الظروف والحياة الأفضل لنا ولأجيالنا القادمة , ولا نجلس القرفصاء وننتظر الظروف تصنع تطورنا وازدهارنا وتحدد معالم حياتنا ومستقبلنا , فما وصل الى القمة , الا من كانت لديه القوة والهمة.
محمد محمود محمد الامين