تعد النقود عصب الحياة الذي لا تستمر بدونه،فرغم أنها لا تراد لذاتها، إلا أنه لا يمكن الحصول أي شيء من مقومات الحياة بدونها، لذلك كانت عصبها وعمودها الفقري الذي لا تقف على سواه، فبغيرها لا تستمر حياة البشرية على النحو المأمول ، إذ يعني انعدامها أو انخفاض قيمتها بشدة، أزمة اقتصادية خانقة، ومجاعة قاتلة،لا تحمد عقباها ، ولا يحصى أذاها....
وقد تطورت النقود عبر العصور والدهور،وكانت لها أشكال عدة، إذ كانت تسمية العملة في العصور الغابرة تطلق على مختلف وسائل التبادل المتداولة آنذاك بما في ذلك الأحجار الكريمة وبعض السلع كالتبغ والسكر والنقود المعدنية، وكانت الصين أول بلد طبع العملة الورقية وذلك في عهد سلالة تانغ (618 - 709).
وقد كان الناس في المجتمعات القديمة يتداولون بأنياب الفيلة والفراء وجلود الحيوانات والزواحف والطيور والأسماك والدواجن، وظل الأفارقة يستعملون لفترة طويلة الودع أو الصدف الأحمر وكذلك الهنود واليابانيون، وكانت المعادن أول وسيط في عمليات البيع والشراء حيث استعملت على شكل سبائك تدخلت السلطات فيما بعد ووحدت الأوزان والمعايير وصادقت عليها بعلامة رسمية ثم تحولت بعد ذلك إلى قطع.
وكان الليديون ـــ سكان آسيا الوسطى ـــ أول من ضرب نقودًا معدنية خاصة بهم في عهد الملك كرويسيوس (561 – 546 ق م) قارون عند العرب، حيث كانت النقود تسك بواسطة أقراص مطبوعة في المعدن توضع فوق سندان وفوقها قالب محفور بالرسم المطلوب، ويضرب بواسطة مطرقة فيطبع الرسم على القرص، ثم ما لبث الإغريق سكان بحر إيجة أن حذوا حذوهم في سك النقود ثم بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ومنها إلى بلاد فارس والهند .
وحيث بعث الله نبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم- برسالة الهدى بقي التداول بتلك العملات، وظل الأمر حتى عهد الخليفة عمر حيث قام في السنة الثالثة من خلافته بإجراء تغيير في النقود الإسلامية، فضرب الدراهم الفضية وأضاف إليها بعض العبارات لا إله إلا الله وحده، وبعضها محمد رسول الله، كما أصدر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه دراهم خاصة بخلافته وجعل نقش الله أكبر.
وتفيد المصادر أن أول من ضرب السكة الإسلامية على الفضة كان الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبصرة (40 هـ)، ولكن أكبر تغيير حدث في النقود الإسلامية كان في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، عندما حدث خلاف بينه وبين ملك الروم، فما كان من عبد الملك إلا أن قام باستبدال النقد الرومي بنقد إسلامي، وأصبح النقد يُضرب في بلاد الإسلام.
وظلت النقود تسك يدويًا حتى ظهرت الآلة التي تُسكّ بها القطع المستديرة عام (1870م) في اليابان وانتقلت منها إلى مختلف البلدان.
أما العملة الورقية فمن المعتقد أنها ابتكار صيني ـــ كما ذكرنا آنفا ـــ ثم انتشرت إلى إيطاليا وهولندا وبريطانيا، وكانت الفكرة الأولى لنشوء النقد الورقي ولدت بين التجار الذين ينتقلون من بلد إلى آخر وهم يحملون نقودهم الذهبية والفضية، فكانت عرضة للضياع والسرقة فاستعاضوا عنها بوثائق خطية تثبت مقدار ملكيتهم عليها، فكانت نواة البديل الورقي البدائي عن العملة المعدنية، ثم تطورت هذه الأوراق فصارت بالإمكان دفعها إلى أي بائع بشكل متداول ليكون المرجع النهائي في القبض وعلى هذا النمط استمر التطور في سك العملات، وتبعها تطور آخر بعد ظهور وانتشار الطباعة فساعد ذلك على ظهور العملات الورقية الحديثة التي نتداولها اليوم، وتوسع انتشار العملة سواء عن طريق التداول أو الودائع في البنوك.
ومن المعروف اقتصاديًا بأن النقود المتداولة ماليًا هي نقود تعهدية من قبل الجهة المصدرة، ويكون إصدارها مقابل مبالغ من الذهب أو كميات من السبائك المرصدة لدى مؤسسة النقد العالمي أو مقابل ضمانات تقدمها الدولة المصدِّرة أو مقابل الاثنين معًا، ويكون الأساس الاقتصادي السليم الذي تعتمده الدول في تصدير النقد الورقي هو أن يكون مساويًا لما لديها من موجدات عينية وخدمات اقتصادية، ولكن كلما ازدادت كميات النقود الورقية على ما يعادلها من موجدات عينية وخدمات اقتصادية تهبط قيمة العملة وقوتها الشرائية، فيحصل ما يسمى بالتضخم النقدي، وكلما كان حجم النقود مساويًا لما لديها كان الوضع الاقتصادي سليمًا.
تلكم مقتطفات سريعة وشذرات خفيفة من تاريخ نقود تشكل عصبة الحياة الدنيوية، وتهبط قيمتها الفانية بين الفينة والأخرى ، ويتطلب الحصول عليها بذل جهد مضاعفا في أغلب الأحيان،وهي تبلى، وتخرق، وتبدل، وتغير ، وتضيع وتفقد ...
إلا أن النقود التي لا تصاب بشيء من ذلك، إذ لا تخضع لنفوذ السلطان ، ولا تصنع بيد الإنسان، وتعمل عالميا في جميع الأمكنة والأزمان، ولا تشتري الدنيا الفانية الواهية ، بل سلع الجنة الغالية ، هي تلك المعبر عنها بالأذكار النبوية والتوجيهات الربانية التي نشتري بها جميع السلع الغالية في جنات الخلد الأخروية، فذلك وعد الله لعباده المؤمنين ، إذ يقول ــ جل من قائل ــ في ماهية تلك النقود وسلعها الغالية: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وكان نهج النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ الإكثار من تبين تلك النقود وطريقة الشراء بها والسلع الغالية التي نحصدها في الدار الآخرة جراء دفعنا هنا لتلك النقود الثمينة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدلُّك على غراسٍ هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يُغرَس لك بكل كلمة منها شجرةٌ في الجنة "، أما ثمن الكنز فيها هو: لا حول والقوة إلا بالله ، وشراء بينت هناك يتطلب من النقود: أداء 12 ركعة من غير الفريضة، أما نخلها فيباع بـ : سبحان الله العظيم وبحمده ، فدفع تلك النقود باستمرار يدخلك سوق الجنة الفريد في شكله وبضاعته، فعنْ أَنَس بن مالك أَن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: " إن في الجنة لسوقا يأْتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أَهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أَهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأَنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا".
إنها الجائزة العظيمة، والسلعة الثمينة، وأي سلعة؟، "آلا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"، مقر السعادة الدائمة؛ مقر الموحدين، وهبة الله رب العالمين لعباده المسلمين، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فلا يستطيع أحدا أيا كان أن يتخيل جمال وقدر النعيم في الجنة، ولا السعادة المصاحبة للحصول على نعمها، وهو الأمر الذي يحثنا على المسارعة في تحصيل أكبر قدر ممكن من النقود في حياتنا القصيرة، تلك النقود التي لا حدود لها فهي بالخيرات وفعل الطاعات، ولازمان لها ولا مكان، فمهما كنت في أي بقة من العالم ، في أي دولة أو مدينة وفي أي بحر وعلى أي أرض، يمكنك وفي لحظات أن تحصل على الملايين منها بالذكر والتسبيح والتهليل والحمد وقراءة القرآن... فهي عالمية بها تشتري سلعا أخروية في جنات خلد غالية.