بعد ما يزيد على السنتين من تقاعده , أصبح يحق لنا ـ دون أن نُتهم بالتزلف أو النفاق لِذي حظوة أو صاحب منصب رفيع ـ التحدث والكشف عن جوانب من حياة رجل تفرغ اليوم لنفسه ولربه وللسعي في مصالح الناس وآثر الابتعاد عن الاضواء , رغم تسليطها عليه في أي موقع حلّ به أو منصب شغلَه , والعملَ في صمت وإخلاص تحيط به هالة من الوقار والاحترام والمهابة.
إنه الأديب الوزير د/ عبد الله ولد بنحميدة.
نعم!! ولد بنحميدة الانسان قبل تلك الالقاب كلها, فلقد اصبحت صفات الاخلاص والتفاني في العمل وخدمة الوطن ونصرة المظلوم والوقوف الى جانب المستضعف صفات ذاتية لا تنفك عنه , بل تلازمه في العمل وفي المنزل , وفي الاجتماعات وفي الاحاديث والكتابات.
لقد عُرف عنه عدله بين مرؤوسيه ومراجعي مكتبه , فلم يُغلق بابَه ـ حتى وهو وزير ـ دون أحد ولم يدخر وسعا في نصرة مظلوم وإغاثة ملهوف , وكان صارما في إنصاف , حازما من غير حيف ولا جور.
ترقى الدكتور في سُلم العمل الدبلوماسي حتى أصبح وزيرا للخارجية , وأظهر خلال سنوات عمله حكمة كبيرة وحنكة نادرة أكسبته ثقة الحكومات المتعاقبة , فتم تعيينه أمينا عاما لعدة وزارات ما زال موظفوها تلهج ألسنتهم الى اليوم بالثناء عليه لِما لمسوهُ من قوته في الحق ووقوفه الى جانب أصحاب الحاجات والمظالم , بل ويصفون فترة عمله معهم "بالفترة الذهبية" , فلم يُغلِقْ دونهم بابا ,ولم يتخذ بينه وبينهم حُجابا , ولم تُعرض عليه مشكلة ,مهما كانت , الا ووجد لها حلا مناسبا مُقنعا عاجلا , فكان كما يقولون : "دكتور حل المشاكل".
هذا اللقب الذي أطلقه الموظفون والمواطنون من أصحاب المظالم عليه عُرف به أيضا في محيطه الاجتماعي , حيث يعتبر ولد بنحميدة أحد أعيان الولاية وواحد من الشخصيات القليلة ذات النفوذ الواسع في المجتمع لِما يتمتع به من مصداقية وحسن سيرة بين الجميع ,الامر الذي جعل منه وسيطا نزيها في أي مشكلة أو نزاع وصاحب رأي سديد غير متهم من أي طرف.
كما حظيّ الدكتور عبد الله بما لم يحظَ به غيره من محبة العامة واحترام وتقدير الخاصة ,حيث كانت مواقفه المشهودة من قضايا وطنه وخدمة مواطنيه دون تمييز أو انحياز هي جواز مروره إلى قلوب الجميع.
ولقد زاده مهابة وتقديرا في القلوب كونه لم يتقوقع يوما بين الجدران الضيقة للأحزاب , ولم تُوجّهْ آراءَه يوما مطامحُ المتحزبين ولا مطامح "السياسيين" , بل ظل يعيش في فضاء من الحرية والاستقلالية والانفتاح , شعاره : "الولاء بعد الله للوطن" ومبدؤه : "خدمة المواطنين" وسِمَته : "الاخلاص في القول والعمل".
كان الدكتور ,فضلا عما أسلفنا , عربيَّ الهوى والهوية ,عروبيّ المواقف , قوميّ المبادئ ,رغم أنه لم يؤثر عنه انتماءٌ لحركة أو عملٌ ضمن حزب من الأحزاب القومية , ولقد كان رفضه استقبال السفير الصهيوني في نواكشوط طيلة توليه منصب وزير الخارجية شهادة حية على أصالته ومعدنه النقي ونقطةً مضيئة في جبين التاريخ ستظل تشعّ ويعلو نورها كلما طبَّع مُطبّع أو تآمر على العروبة والأقصى خائن , ولو لم يكن في السجل الدبلوماسي للرجل من مواقف مشهودة الا هذا الموقف لكفاه ويزيد.
ولعل من الخطأ الفادح ,بل ومن الخطيئة أن نتحدث عن شخصية الدكتور عبد الله ولد بنحميدة الانسان , والمواطن البسيط , والدبلوماسي المحنك , والخطيب المفوه ,ونغفل جانبا هاما وأساسيا من هذه الشخصية , وهو الجانب الادبي والثقافي في حياته , الجانب الذي أبدع فيه كثيرا , والميدان الذي لا يجارى ولا يبارى فيه , حيث برز اسمه كواحد من أشهر أعلام الادب وسدنة الثقافة وفرسان الضاد ,ليس في بلاد شنقيط وحدها ,بل تخطت شهرته الحدود ولاقت مؤلفاته ومقالاته القبول والاشادة , وشهد له الكتاب والنقاد بالبراعة والتمكن , وليس كتابه المشهور :
"الشعر الفصيح في بلاد شنقيط: النشأة والأصول" إلا أحد النماذج الصارخة على مقدرة الرجل وثقافته الموسوعية وامتلاكه لأدوات الابداع في أبهى تجلياته.
وحيث ولّيتَ وجهكَ شطر أيٍّ مجال من المجالات التي كتب فيها الدكتور : أدبية كانت أو ثقافية أو اجتماعية فستجد تلك اللمسات الابداعية المحترفة هي السمة المشتركة بينها جميعا.
وما ذاك الا بفضل الموهبة الفطرية التي صقلها العلم والممارسة والاطلاع على ثقافات وإبداعاتٍ عربية وأجنبية في ثوبها الاصلي وبلغة كتابها , فكانت بالنسبة له عبارة عن شلالات علمية وروافد إشعاعية متدفقة تغذي نهره المعرفي الموسوعي , وذلك بفضل إتقانه لعدة لغات أجنبية من أبرزها : الفرنسية والانجليزية بالاضافة لمعرفته الجيدة للغة الألمانية , فضلا عن كونه قارئا نهِما ومتابعا لِما تُصدره دور النشر العربية والاجنبية , ومطلع على جديدها باستمرار.
والأجمل من كل ما سبق أنه سخر علمه وثقافته وتجربته الطويلة في العمل , ومكانه ومكانته وعلاقاته الواسعة في خدمة البسطاء وحل مشاكل المظلومين والضعفاء والوقوف الى جانب المهمشين والفقراء , فلقد تصدى للظلم موظفا ومسؤولا , وتصدى له بقلمه كاتبا , وبلسانه خطيبا تهز خُطبه المنابر ,وأمام المسؤولين وصناع القرار , وصدع بالحق وقول الحقيقة في وقت لم يكن أحد يستطيع فيه الافصاح عن رأيه لأقرب الناس اليه , وكانت أفعاله مطابقة لأقواله , فلم ينعمْ يوما بحياة البذخ كما يفعل مَن هم دونه شأنا , وأقل منه منزلة ومرتبة , وما تكدست يوما ملفات على مكتبه , حيث كان شعاره المعروف "لا تأجيل لعمل اليوم الى يوم الغد".
ونحن نقول في الختام وبكل صدق ,وكشهادة لله وللتاريخ وللأجيال القادمة :
ما ضرَّ عبد الله ولد بنحميدة إن ذهب المتقاعدون إلى قصورهم وضياعهم وأموالهم وخرج هو من القصر مَدينا لا يملك قنطارا قطميرا , غير أنه خرج نظيف اليد ,مرفوع الهامة ,يطاول الثريا ,ويطل برأسه من فوق الجوزاء ,تلهج ألسنة الناس بذكره والدعاء له وشكره , وبرصيد لا ينفد أبدا "رصيد الاخلاق وحب المساكين والاخلاص للوطن.
بقلم/ محمد محمود محمد الامين