قال المهندس محمدو لد صلاحي في رده على السؤال التالي للعربي الجديد :
أنت السجين الوحيد بين سجناء غوانتانمو الذي سلمته بلاده إلى الإدارة الأميركية. هل حقّق الأميركيون معك في موريتانيا؟
صحيح، حكومة بلادي سلّمتني إلى الأميركيين، لكنّني أقول كما قال الشاعر: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام". فالقيادة السياسية تتغير لكنّ الشعب لا يتغير. لا يمكن إلا أن أسامح، خصوصاً أنّ الموريتانيين دعموني كثيرا ووقفوا معي دائماً بدعواتهم وقلوبهم وجهودهم الطيبة التي تكللت بإطلاق سراحي.
- كيف أتى اعتقالك؟
اعتقلت في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 الذي كان يصادف ذكرى عيد الاستقلال الموريتاني، ونُقلت إلى سجن الاستخبارات حيث رحت أستمع إلى كلمات حفل عيد الاستقلال. السجن كان قريباً جداً من مقرّ الرئاسة. وفي التحقيق، اتهمتني الاستخبارات بأنّ لي علاقة مباشرة باعتداءات 11 سبتمبر، وبدأت سلسلة الاستجوابات حول العلاقة بتنظيم القاعدة وبحرب أفغانستان. مرضت بسبب كثرة الضغط عليّ، فطلب منّي طبيب السجن أن أتوقّف عن الصوم إذ كنّا في شهر رمضان ورفضت أن أفطر. أصرّ عليّ أن آكل حتى لا أفقد الوعي. وبعد أيام من التحقيق، أخبرني مدير الاستخبارات آنذاك بأنّهم سوف ينقلونني إلى الأردن. استغربت ذلك، وأجبته أنّ "لا علاقة لي بالأردن ولم أزره من قبل. وإذا أردتهم أن تسليمي لأيّ جهة والتخلص منّي، فسلّموني إلى أميركا". قلتها تهكماً على قرارهم، فأخبرني حينها بأنّ أميركا هي التي طلبت تسليمي إلى الأردن. رُحّلت مباشرة إلى الأردن حيث أمضيت سبعة أشهر.
- كيف عشت تلك المرحلة؟ وهل تخللها تعذيب؟
كانت مرحلة صعبة وقاسية، وقد تعذبت إذ تعرّضت للضرب ثلاث مرات بالإضافة إلى الإهانات والتهديدات. كذلك أكّد المعتقلون الآخرون أنّهم تعرّضوا للضرب الشديد. وفي نهاية التحقيقات، كانت الخلاصة أنّ الأردنيين أكدوا للاستخبارات الأميركية أنّه ليس لديّ ما أفيدهم به، لأنّني لم أقم بأيّ شيء ولا تربطني أيّ علاقة بالقاعدة ولن يفيدهم اعتقالي. لكنّ الأميركيين كانوا مصرّين على مواصلة التحقيق معي ومع غيري من السجناء المظلومين بهدف ملء سجن غوانتانمو الذي كانوا يعدّونه. وأنا لا ألومهم على ذلك. للأسف، نحن في العالم العربي نلوم أميركا وننتقدها بينما الملام هو نحن وحكوماتنا التي تفرّط في أبنائها وتسلّمهم لمن يطلبهم. أنا بلادي سلّمتني لأميركا لتفعل بي ما تشاء.. فكيف ألوم الأميركيين؟
- وكانت رحلتك من الأردن إلى أفغانستان ثمّ غوانتانمو...
خرجت من الأردن في 20 يونيو/ حزيران من عام 2002. أخبروني أنّ التحقيق انتهى وأنّهم سوف يرسلونني إلى موريتانيا. وفي الطريق إلى المطار كنت مقيداً ومعصوب العينَين، فيما سدّوا أذنَي ووضعوا غطاءً على رأسي. كانت كلّ حواسي معطلة إلا الشمّ. وحين وصلنا، ميّزت رائحة الضابط الأميركي ولمحت شعراً أشقر على يدَيه حين مالت عصابة العينَين. وبدأ يشقّ ثيابي بالمقصّ من أجل الفحص وتغيير الملابس. عرفت أنّني لن أتّوجه إلى موريتانيا، وأنّ الاستخبارات الأميركية بدأت تتولى المهمة.
في سجن باغرام (في أفغانستان)، أمضيت خمسة أسابيع في تحقيقات مستمرة، وكنت أصرّ على أنّني بريء. ولأنّني لم أكن أجيد سوى اللغة الألمانية، فقد تولّى التحقيق معي عميل سي آي إيه (وكالة الاستخبارات المركزية) من أصل ياباني يجيد الألمانية. قال لي جملة ما زلت أذكرها: "هنا لا يوجد بريء من المتوقع أن يُطلَق سراحه. إمّا أن تكون متورطاً بالمساعدة والتحريض على هجمات 11 سبتمبر وإمّا أن تكون بريئاً. اقنع نفسك من الآن بأنّك مصاب بالسرطان، فأميركا منذ الآن هي سرطان لا يفارق الجسد وتهمة الإرهاب ملتصقة بك إلى ما لا نهاية". وفي الرابع من أغسطس/ آب من عام 2001 غادرنا أفغانستان ووصلنا إلى غوانتانمو بعد 30 ساعة من الطيران.
- ماذا حدث في غوانتانمو؟
في المرحلة الأولى، لم يكن تعذيبا بالمعنى الحقيقي. وضعونا في غرف ضيّقة أشبه بصناديق، جدرانها من الحديد لا ترى منها شيئاً، لكنْ ثمّة ثقوب صغيرة فيها للتهوية. أمّا بوابتها فصغيرة، يدخلون منها عليّ. هذا يعني سجناً انفرادياً كئيباً من دون شمس ولا هواء متجدّد. لم نكن نتواصل كمعتقلين بين بعضنا بعضاً على الإطلاق. وبعد شهر من التحقيقات، نقلونا إلى زنزانات مسيّجة بلا جدران، يسميها المعتقلون "شبابيك الدجاج". فيها، رحنا نتعرّض للشمس والرياح وتُنتهك خصوصياتنا بسبب هذا الفضاء المفتوح. لكنّنا كنا نتواصل مع بعضنا بعضاً بالنظرات والكلام حين يبتعد الحرّاس.
وفي إحدى ليالي يونيو/ حزيران من عام 2003، اختُطفت من بين الشباب في المعتقل ووُضعت في السجن السري في زنزانة لا يُمَيَّز فيها النهار من الليل، ورحت أتعرّض لأشدّ أنواع التعذيب والتجويع والإهانات. بقيت هناك حتى عام 2005، وقد عرفت في وقت لاحق أنّ هذا السجن يضمّ السجناء الخطرين. كانوا 15 سجيناً من أهمّ المعتقلين وأكثرهم عرضة للتعذيب، من بينهم خالد شيخ محمد ورمزي بن الشيبة.
كما تحدث ولد صلّاحي، المعتقل السابق في سجن غوانتانامو سيء الصيت، عن تجربته في السجن، وذلك خلال حلقة نقاش نظمتها جمعية "اقرأ معي" مساء اليوم الأحد بالمتحف الوطني في نواكشوط.
واستعرض ولد صلّاحي جوانب من تجربته في السجن والاعتقال والتي استمرت طيلة 15 عاماً، كما قدم أجوبة على بعض الأسئلة المتعلقة بكتابه "يوميات غوانتانامو"، الذي يحكي تفاصيل كثيرة من السنوات الخمس الأولى من الاعتقال.
وقال ولد صلاحي إنه عندما كان شاباً صغيراً كان "ثائراً" ككل الشباب في ذلك العهد، مشيراً إلى أنه عندما وصل إلى ألمانيا لإكمال دراسته أصيب بإحباط جراء الصدمة التي خلفها الفارق بين الحضارة الغربية وما يجري في العالم العربي والإسلامي.
وأوضح أنه ومجموعة من الشباب كانوا يناقشون السبل الكفيلة بخلق نهضة في العالم العربي، وخرجوا بقراءات من الكتب تؤكد أنه من الضروري وجود "خليفة" يتبع له الجميع، وبالتالي آمنوا بأن النموذج الأفغاني آنذاك هو بداية النهضة، ولكنه وصف تجربته في تلك الفترة بأنها "ساذجة".
وأشار إلى أن الأيام أوضحت لهم أن المراهنة على "خليفة" واحد لإصلاح كل شيء مخطئ في تقديره، واصفاً ذلك بأنه كمن يضع بيضه في سلة واحدة، وقال إنهم اقتنعوا بضرورة وجود رئيس وبرلمان وهيئات دستورية أخرى.
وركز ولد صلاحي في حديثه أمام عشرات الشباب والمثقفين في باحة المتحف الوطني على ضرورة بناء الثقة بين الإخوة والتسامح والعفو، والابتعاد عن العداوات والحروب والعنف.
وأكد ولد صلاحي أن تجربته المريرة من الاعتقال من المستبعد أن تتكرر مع أي مواطن موريتاني آخر، مبرراً ذلك بأن الشعوب أصبحت واعية ولا يمكن ظلمها وهي صامتة.
وقال إن الإفراج عنه جاء ثمرة ضغط شعبي موريتاني، بالإضافة إلى جهد بذلته الحكومة الموريتانية في الأخير.
وتعد هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها ولد صلاحي عن تجربته على الملأ في نواكشوط، مع أنه أجرى عدة مقابلات مع وسائل إعلام غربية ومحلية.