ما من شك أن النَّسَب من بين الأمور التي جُبِل البشر عل صونها، وقد رتب عليه الشارع أحكاما كثيرة متعددة كتعدد الحقوق المتصلة به باعتباره حقا لله، وحقا للولد، وحقا للوالد، فأثبته بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نِتَاجُ الحيوان ، ومن أهمها اتفاقا الفراش الذي هو أصل إجماعي في ثبوت النسب، وهو كل زوجية تقوم بين الرجل والمرأة حين الحمل فلا إشكال في اللُّحُوق إجماعا في حال الزوجية، وإنما يثور الإشكال الفقهي حول نسب، و إلحاق و إستلحاق ما نتج عن علاقة جنسية خارج إطار الزوجية برضا أو إكراه [الزنا، والاغتصاب]؛ لتردده بين ثلاثة احتمالات:
أولها: أن تكون المرأة المزنيُّ بها ذات فراش/ متزوجة ، وأتت بولد بعد ستة أشهر من زواجها، فيثبت نسب الولد إلى الزوج، ولا ينتفي عنه إلا بالملاعنة، ولا يلتفت إلى استلحاق الزاني له إجماعا متأسسا على حديث الصحيحين:" الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" .
ثانيها:أن لا تكون المرأة المزنيُّ بها ذات فراش ، ولا يسْتلحقه الزاني، ولا يدَّعي أنه ابنه من الزنا ، فلا يُلحق به قولاً واحداً، ولو اعترف بالزنا .
ثالثها : أن لا تكون المرأة المزنيُّ بها فراشاً لأحد، و أراد الزاني استلحاق الولد به، و هذه الصورة محل نقاش و خلاف مستفحل بين فقهاء الشريعة، خلاف جعل ابن القيم يصفها بالمسألة الجليلة .
و حول هذه المسألة الجليلة ينقسم الفقه على قسمين متمايزين كمًّا من حيث كثرة القائلين، متقاربين نوعا من جهة قوة الدليل: بين قائل لا يُنسب ابن الزنا إلى الزاني ولو ادعاه أو استلحقه، وقائل بنسبته إلى الزاني إذا استلحقه، وبينهما يدور هذا الإشكال.
ولئن فرق الفقهاء بين الزنا والاغتصاب من حيث الحكم و الأثر إلا أنهما لم يفرقوا بين نتاجهما في الوصف حيث أطلقوا "ابن الزنا" على كل من ولد خارج إطار الزوجية رضاء أو إكراها، لأن الفعل المادي وهو المُوَّاقَعَة يشكل جرمَ الزنى الذي يُحَدُّ فاعله إن لم تقم شبهة تدرؤه ، قال خليل :" الزنا وطء مكلف مسلم فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق تعمدا وإن لواطا، أو إتيان أجنبية بدبر، أو إتيان ميتة غير زوج أو صغيرة يمكن وطؤها أو مستأجرة لوطء أو غيره أو مملوكة تعتق .."، إلا أن الفقهاء تعاملوا مع المغتصبة تعاملا خاصا يُبِينُ سَبْقَ الشريعة، وهو سبق تَقَاصَرَتْ عنه مباحث الفقهاء التي خُصِّصت للغصب وما نتج عنه من ولد، مقارنة بخوضهم المترامي في مسألة ابن الزنا وما ذاك إلا لغلبة القائلين بعدم الإلحاق مطلقا.
فالاغتصاب شرعا حمل الغير على مالا يرضاه بواسطة الإكراه والاستطالة والقهر على الزنا، وقد أحسن ابن جزي حين فرق بين الغصب والتعدي فجعل الغصب اخذ رقبة الملك أو المنفعة بغير إذن المالك على وجه الغلبة والقهر دون حرابة، بينما جعل التعدي أعم من الغصب لأنه يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان، و لا شك أن تعبير الفقهاء بالاستكراه بدل الاغتصاب و التعدِّي أعمّ لشموله للنوعين.
و قد تقرر فقها سقوط الحد عن المغتصبة إكراها أو إلجاء بلا خلاف، و اختلفوا في وجوب صداق المثل لها و أرْشِ فضِّ البكارة ، وسبب الخلاف هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة فمن قال هو عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية و المحرمية، ومن قال إنه نحلة خصَّ الله به الأزواج لم يُوجبْه .
ويُستحَقُّ الصداق في مذهبنا بدون يمين وفقا لاستحسان اللَّخمي، و بتعدُّد الوطَئات عند التَّسُولِيِّ بناء على أن العادة تحكم بأن المرأة لا تفضح نفسها بتعلُّقها برجل تدَّعي أنه نال منها، و لو لم تكن صادقة ثبت لها الصداق ولم يثبت الحد؛ لان الشرع جعل إثبات الحقوق المالية اخفَّ من إثبات الزنا كما في الونشريسي ، ولم يعتبر الفقه في لزوم الصداق رضا الضحية القاصر لانعدامه شرعا، فجعل مُوَاقَعَة القاصر ولو برضاها موجبا للصداق، يقول التَّسُولِي: "وهذا إنما إذا كانت بالغة يعتبر إذنها، وانظر لو كانت صغيرة يوطأ مثلها وطاوعته على الزنا بها هل عليه صداقها و هو الظاهر؛ لأن إذنها غير معتبر" .
و قد جعلت الشريعة أهلية البلوغ شرطا في توجُّب العقوبة، وإن وقع التردد في مفهوم البلوغ بين الطبيعي، والعقلي المحدد اضطرادا في:18 سنة وهو ما يفهم من اختيار ابن القاسم خلافا لما ذهبت إليه المدونة من إيجاب الحد بمجرد الإنبات قال ابن فرحون: "فلا حد على صبي و لا صبية ويعاقبان... و اوجب في المدونة الحد بالإنبات ولم ير ذلك ابن القاسم وقال أحب إلي أن لا يحكم بالإنبات ، وإذا قلنا يحكم بالإنبات فلا بد أن يكون إنباتا بيِّنا بشعر أسود و من وجب عليه الحد وقد أنبت ولم يبلغ أقصى سن من يحتلم وادعى انه لم يحتلم ففي حده قولان لمالك والأصح سقوط الحد لأجل الشك، قال وقال ابن رشد ولا اختلاف عندي أنه يعتبر الإنبات فيما بينه وبين الله تعالى من الأحكام يريد الصوم والصلاة والحج". و به ندرك أن اتجاه الفقه إلى أن معتبر الرِّضى هو من بلغ سن الثامنة عشر [18] ولو كانت العلامات الطبيعية للبلوغ التكليفي كالإنبات بادية لترتب سقوط الحد عنه للشك فقها، وهو ما اتجه إليه المشرع من خلال تحديد سن القصور ب18 سنة في المادة الأولى من قانون الحماية الجنائية للطفل حاسما لإشكال سن البلوغ لدى الطفل الجانح التي يكون فيها مسؤولا جنائيا عنه أفعاله .
لكن مسألة إلحاق ابن المغتصبة الخِلْوُ من زوج/ غير المتزوجة لا نجد لها حضورا مفارقا لمسألة إلحاق ابن الزنا بمُستلحقه في كتب الفقه لاشتراكهما في انعدام الزوجية ووصف الفعل شرعا بالزنى، فتوجَّب إسقاط الثانية على الأولى دون خلاف.
و قد تضاربت آراء المذاهب الإسلامية في شأن ولد الزنا بَلْهَ ولد الاغتصاب، بين قائل بثبوت نسبه من أمه دون أبيه و هو قول الجمهور والظاهرية، و قائل بأنه لا يثبت نسبه شرعا لا من أبيه ولا من أمه ولا يرث منهما وهو مذهب الشيعة الإمامية، و ذاهب إلى ثبوت نسبه من أمه و أبيه إذا ادعاه و لو قال إنه من الزنا، بشرط أن لا تكون المرأة ذات فراش وهو مذهب جمع من جِلَّة علماء الأمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، اللذين حَكَيَاهُ عن الإمام إسحاق بن رَاهَوَيْه، وهو قول عُروة بن الزبير ، وسُليمان بن يسار، ، وابن سِيرين ، وإبراهيم النَّخْعِي ، والحسن البصري، و أخذه به الأحناف بقيود .
ورغم أن القائلين بإلحاق ابن الزنا مطلقا سواء كان بإكراه أو رضا يخالفهم أصحاب المذاهب الأربعة والظاهرية إلا أن مذهبهم يعتمد على أدلة تلامس العقل و مقاصد الشرع لا يمكن تجاوزها بسهولة وان لم تقنع الجمهور كانت شبهة لا بد من مراعاتها عند كل حسم، فمن أدلتهم:
أن عمر بن الخطاب كان يُليط أولاد الجاهلية بمن يدعيهم في الإسلام، قال ابن العربي : " قال علماؤنا: كان أولئك أولاد لزَنْيَةٍ [ أي الذين ألحقهم عمر بآبائهم ] ، وكذلك السُّنَّةُ اليومَ فيمن أسلمَ من النَّصَارى واليهود، ثمّ ادَّعَى ولدًا كان من زنا في حال نصرانيَّتِه ، أنّه يُلحَق به إذا كان مجذوذَ النَّسَبِ ، لا أَبَ لهَ ولا فِراشَ فيه" .
أن القول بالتفريق بين أمر الجاهلية والإسلام : غير مستساغ؛ باعتبار أن النسب أمر قدري كوني بغض النظر عن اعتقاد الزاني فإلحاق ولد الزنا بأبيه إذا استلحقه حكم لا يختلف في جاهلية ولا إسلام.
تأويلهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" بان ذلك إنما يكون عند تنازع صاحب الفراش والزاني فحيث لا فراش فلا محذور، وقد عقب عليه ابن القيم: قائلا "و هذا المذهب ظاهر كما ترى قوة ووضوحا" .
رواية الدارميُّ في السنن عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ قَالَ بُكَيْرٌ : وَسَأَلْتُ عُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.
كون هذا الطفل متولد من ماء الزاني ، فهو ابنه قدراً و كوناً ، ولا يوجد دليل شرعي صحيح صريح يمنع أو يعارض إلحاق نسبه به، فيصار إلى الحكم الكوني لعدم معارضة الحكم الشرعي له.
تلازم الجملتان في قوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ، فيما إذا كان هناك فراش و عاهر و في هذه المسألة لا ينازع الزاني أحد في نسب هذا الابن فإلحاقه مناسب للعقل، وكذلك للشرع عند التأمل.
قصة جريج العابد كما في الصحيحين ، لما قال للغلام الذي زنت أمه بالراعي "مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ ، قَالَ : الرَّاعِي" ، فكلام الصبي كان على وجه الكرامة وخرق العادة من الله ، وقد أخبر أن الراعي أبوه، مع أن العلاقة علاقة زنى؛ فدل على إثبات الأبوة للزان ، قال ابن القيم: " وَهَذَا إِنْطَاقٌ مِنَ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ" ، و قال القرطبي: " النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنا للزاني ، وصدَّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فثبتت البنوة وأحكامها " .
يقتضيه الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ، لَأنَّ الْأَبَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ ، وَهُوَ إِذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمِّه ِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا ، وترثه ويرثها ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْوَلَدُ مِنْ مَاءِ الزَّانِيَيْنِ ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُمَا، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِالْأَبِ إِذَا لَمْ يَدِّعِهِ غَيْرُهُ، وهذا ا مَحْضُ الْقِيَاسِ كما قال ابن القيم .
تقتضيه المصلحة،؛ إذ أن في نسبة ولد الزنا إلى أبيه تحقيق لمصلحة الطفل والامَّة؛ لوجوب الحماية و حسن التربية على الوالد مما يطفئ جذوة الحقد على المجتمع في من عاش محروما من نعمة الأبوة.
تشوف الشارع لحفظ الأنساب ورعاية الأولاد وما في الأخذ بذلك من تشبث واضح بمقاصد الشريعة الغراء.
شبهة الخلاف المذهبي ومعلوم أنها من اشد الشبهات يقول ابن حجر :" و حاصل ما فسَّر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة، ثانيها: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى...الخ".
اعتمادا على قاعدة مراعاة الخلاف المتقررة فقها ، والتي جعلها المالكية أصلا من أصولهم قال ولد بُوكَفَّهْ: ورعـــــــي خُلْف كان طورا يعْملُ/ بــــــــه و عنه كان طورا يعْـــــــدلُ/ وهل على مجتهد رعي الخــــــلاف / يجب أم لا قد جرى فيه اختلاف، وتعني عند ابن عرفة : "إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أُعمل في نقيضه دليل آخر" ، كإعمال الإمام مالك دليل مخالفه القائل بعدم فسخ الشِّغار في لازم مدلول ذلك المخالف، ومدلوله هو عدم الفسخ الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشِّغار عند موت أحدهما، و هذا المدلول الذي هو عدم الفسخ أعمل مالك في نقيضه الذي هو الفسخ دليلاً آخر يقتضي الفسخ عنده.
ردهم لأقوى ما يستدل به الجمهور كما يقول ابن القيم : " إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ ، وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ" ، و هو حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى : أَيُّمَا مُسْتَلْحَقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ ، قَضَى: إِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ تَزَوَّجَهَا أَوْ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَا اسْتَلْحَقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ عَاهَرَ بِهَا : لَمْ يَلْحَقْ بِمَا اسْتَلْحَقَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ ادَّعَاهُ ، وَهُوَ ابْنُ زِنْيَةٍ لِأَهْلِ أُمِّهِ مَنْ كَانُوا حُرَّةً أَوْ أَمَةً)، فرغم تحسين بعض المحدثين له ، إلا أن مداره على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة ، وهذه سلسلة اختلف المحدثون فيها كثيراً ، وهو وإن كان الأرجح تحسين حديثه إن كان الراوي عنه ثقة إلا أن تفرده بمثل هذا الحديث الذي يعد أصلاً في بابه يدعو للتوقف في قبول روايته ، فلا يرقى إلى الحجية.
ضعف حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ ، مَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ لَحِقَ بِعَصَبَتِهِ ، وَمَنْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ- أي نكاح صحيح - فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ) ، وان خص الأصمعي المُسَاعاَة - الزنى- بغير الحرائر إلا أن المحدثين ضعفُّوه، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ:" فِي إِسْنَاده رَجُل مَجْهُول" ، و قال ابن القيم : فِي إِسْنَادِه رَجُلٌ مَجْهُولٌ ، فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ .
إن هذه الأدلة تجعل الناظر بتمعن يذهب إلى اعتبار اللُّحوق أولى من عدمه اعتمادا على قاعدتين فقهيتين جليلتين هما: قاعدة ما قَوِي مدركه من مسائِل الاجتهاد يُراعى فيه الخلاف، وقاعدة: اختلاف الفقهاءِ شُبهةٌ تُدرَأُ بها الحدود، وهو ما أدى ببعض المعاصرين إلى التشبث والتنظير له ومن بينهم: الشيخ محمد رشيد رضا ، و الشيخ ابن عثيمين، و الفقيه الخمليشي .
ولنا أن نفهم ذلك من تعقيب التَّسُولي على قول ابن عاصم: وَواطِئٌ لحُرَّةٍ مُغْتَصِبَا\ صَدَاقُ مِثْلهَا عَلَيْهِ وَجَبَا، بقول الحَطَّاب فائدتان: الأولى يجتمع لحُوق الولد والحد في خمس مسائل: إحداها الرجل تكون عنده الأمة فتلد منه فيقر بعد الولادة بأنه غَصَبَها فيُلحق به الولد لأنه يُتَّهم على قطع نسبه ويلزمه الحد..." ؛ ومن تسهيل العلامة عدُّود: في التسهيل: حين قال: "..ذكرها في التوضيح في كتاب الاستلحاق بعيد قول ابن الحاجب: و يحد الواطئ العالم و الولد رقيق و لا نسب له وقال بعدها :وليس ذكر هذه المسائل على سبيل الحصر بل الضابط أن كل حد يثبت بالإقرار ويسقط بالرجوع عنه فالنسب ثابت معه، وكل حد لازم لا يسقط بالرجوع عنه فالنسب معه غير ثابت.." ، ومعلوم أن الزنا يندرء فيه الحد بالرجوع عن الإقرار فيه.
ولا شك أن الأخذ بهذا المذهب بضوابطه المحصورة في: كون المغتصب مقرُّ مستلحقٌ، والمعتصبة خِلْوٌ من فراش أي غير متزوجة فيه من الإنصاف البادي ما جعل أصحاب القائلين به يرونه أكثر قوة ووضوحا يقول ابن القيم : " هذا المذهب كما تراه قوةً و وضوحاً ، و ليس مع الجمهور أكثر من "الولد للفراش"، وصاحب هذا المذهب [الحنبلي] أول قائل به، والقياس الصحيح يقتضيه".
ولئن كنا نسلم أن هذا المذهب ما من قائل به في المذهب المالكي ، و أن بعض فقهاء المالكية يرون الفتوى بغير المشهور مردودة، والقضاء به لا ينفذ قال ابن عرفة: "إنما يعتبر من أحكام قضاة العصر ما لا يخالف المشهور"، ونظمه الفاسي: حكم قضاة الوقت بالشذوذ/ ينقض لا يتم بالنفوذ، إلا أن الفتوى و القضاء بالشاذ ذهب إليهما بعض فقهاء المالكية، وخصوصا علماء هذا القُطْر فلم يزالوا يختارون الفتوى بقول شاذ، ويحكمون به، رغم ملازمتهم لمذهب مالك تدوينها وإقراءً وتدريسا لدليل ظهر لهم عند الترجيح، او التخريج، فقد خالف أهل الأندلس مالكا في مسائل، منها ما جرى به العمل من عدم إثبات الخلطة، وقال المغاربة بتبتبت الهاربة والمُخَلَّقَة، الذي قال به الإمام أحمد بن مسير وهو من أجل الأئمة المالكية، سدا للذريعة، و اختاره ابن عرفة، وتلميذه الأبي، وجرى به العمل بفاس على ما نقله القوري، و أفتى به الوتشريسي ، ولم يستطع فقيه ولا قاض أن يقف في وجه فتوى ابن عَرَضُون الشهيرة كتلك المتقدمة في التَّبْتِيـتِ وقضاءه للمرأة بقسم سعايتها وكدِّها.
لقد دأب علماء هذا القُطْر [موريتانيا] قديما (قـ:13هـ/19م خاصة) على مخالفة مشهور المذهب بما يتماشى مع أصوله بواسطة "التخريج" عليها في الأزمان التي غابت فيه فرص الاجتهاد وسُدّت فيها منافذه ، واشتداد التعصب المذهبي ومنع التخريج، والترجيح عند منظري ذلك التيار كالشيخ سيدي عبد الله ولد حاج إبراهيم الذي ذهب في الضَّوالِّ والهَمل: "إن المقلدين في البلاد لا يجوز لهم العمل بالعرف إذا لم يجدوا نصوصا لأئمة المذهب، وإنما يجتهد الإنسان في المتفق عليه في المذهب فإن لم يجد فالأقوى من الخلاف، فإن لم يجد فالشاذ من المذهب، فإن لم يجد فينظر الخلاف خارج المذهب ولا يخرج عن أقاويل العلماء" ، و من رحم فقهه خرج الشيخ محمد المامي في البادية قائلا: "وله أيضا طرد الضَّوَال والهَمل، ولعله يريد طرد أهل الزمان بالكلية عن التخريج والترجيح الذي من ثمرته العمل العادي. قلنا فيه خلاف مالكي إذ لا يكون مقلد وهو أسوأ حالا من العامي وفي تخريجه خلاف مالكي وهذا الخلاف الذي في تخريج المقلد والعامي وقع في زمن يوجد فيه مخرِّج كامل الشروط، فما ظنك بهذا الزمان الذي يتعذر فيه المشي على شطر الخلاف الذي هو منع التخريج(…)، واضطرار عامة المسلمين اليوم إلى تخريج المقلّد مصلحة ترجح المرجوح إن لم تكن ضرورة تبيح المحظور" .
ويشتد مذهب القائلين اليوم بالإلحاق قوة وإلحاحا إذا كان الاغتصاب واقعا على قاصرة ينعدم رضاها شرعا وقانونا، وهو ما يستوجب ضمان وحق وليدها في الأبوة، و الرعاية، وضمان حقوقها المعنوية تماما كما ضمنت لها الشريعة حقها في التعويض، ولقد أحسن المشرع الموريتاني حين منع أن تظهر في عقود الحالة المنية عبارة " من أب مجهول، أو أم مجهولة" أو أية عبارة مشابهة طبقا للمادة:25 من القانون رقم:003/2011 المتضمن لمدونة الحالة المدنية.
وما من شك في أن هذا الضمان والصون مُتناغم مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها بلادنا وعلى الخصوص: المواد:25/1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،23/1؛24/2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، 7 من اتفاقية حقوق الطفل، وهو تناغم يُبِينُ سبْق الشريعة إلى مبدإ الإنصاف و التشبُّث بالمقاصد و يفرض على المجتهدين بذل ما في الوسع من اجل تقريره، انطلاقا من قول الشاطبي: "كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز شذّ عن الجماعة، أو لا، فالمسالة جائزة" . ويوجب على المشرعين تقنينه وما يقتضيه، ليجد القضاة مخرجا من شبهة التوسع في الإحالة الواردة في المادة:449 من القانون الجنائي، - وهي داع آخر من دواعي الأخذ بمذهب الإلحاق- إلى يقينية النص التي تقطع الطريق أمام تضارب الآراء والأحكام في الحقوق.
إن الدعوة إلى إلحاق ولد المغتصبة - خصوصا القاصر- بالمغتصب إشكال يستوجب الملاحظة وبذل الجهد في تعديل المقتضيات القانونية الواردة في المواد:309 ، و24 من منظومتنا الجنائية، وجعله أي الإلحاق تابعا للإدانة والاعتراف وفي نفس الحكم، صونا للحقوق وحفاظا على مصلحة بادية لا تحتاج إلى أي ملاحظة، والى تعديل المقتضيات المتعلقة بالاستلحاق الواردة في المادة:64 من مدونتنا للأحوال الشخصية للاستفادة من مقتضيات المادة:63 منها بالتوسع في نطاق "الشبهة" حيث نص المشرع على أنه:"إذا حملت المرأة غير المتزوجة من وطء شبهة ثبت نسب الولد لصاحب الشبهة"، ولا شبهة أكبر من اختلاف العلماء في مسألة إلحاق ولد المغتصبة إذا اقر به المغتصب و استلحقه، وهو رأي قوي، و سائغ عقلا بما لا يحتاج إلى مزيد بيان.
بوتلميت.29-01-2017
الدكتور/هارون ولد عمَّار ولد إديقبي