الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الامريكية وأثرها على القارة الافريقية

اثنين, 27/04/2020 - 13:19

التجارة غير العادلة" هو المصطلح الذي استخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتقديم أحد المبررات لما حدث بداية من مارس 2018م ضد الصين تحديدًا. في 23 مارس 2018م، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على ما يقرب من 25% من وارداتها من الحديد، مستثنية عددًا من الدول لم تكن الصين من بينها. إضافة إلى ذلك، قامت بفرض تعريفات جمركية على ما يقرب من 10% من وارداتها من الألومنيوم، واستثنت من هذا كل من أستراليا والأرجنتين فقط. يُعد كلاً من هذين المعدنيين من الصادرات الصينية الرئيسية للولايات المتحدة. في مستهل أبريل من نفس العام، قام مكتب التمثيل التجاري الأمريكي USTR بفرض تعريفات جمركية على مجموعة من السلع تصل إلى 25%، هذه السلع تعادل قيمتها ما يقرب من 50 مليار دولار. ردت الصين بإعلانها قائمة أولية من السلع المزمع تطبيق تعريفات جمركية صينية عليها تصل هي الأخرى إلى 25%، وتعادل قيمتها 50 مليار دولار، من أبرز هذه السلع، فول الصويا الأمريكي[1].

على مدار الشهور التالية، تصاعدت حدَّة هذه التعريفات الجمركية، لتصل مثلاً في أغسطس إلى ما يقرب من تعريفات جمركية أمريكية على سلع صينية ذات قيمة تصل إلى 200 مليار دولار. في المقابل قامت الصين بالرد على هذه التعريفات بتعريفات جديدة على سلع تصل قيمتها إلى 60 مليار دولار في سبتمبر 2018م. في مايو 2019م، أعلن ترامب زيادة التعريفات الجمركية من 10% إلى 25% على السلع الصينية التي تعادل قيمتها 200 مليار دولار، وردت الصين بتعريفات جديدة. تصاعدت حدة هذه الحرب التجارية لتصل إلى منع الولايات المتحدة شركاتها من التعامل مع شركة هواوي الصينية.

في نهاية يونيو 2019م، وفي اجتماع الدول العشرين الكبرى في بوينس أيرس الأرجنتينية، أُعلِن عن هدنة تجارية، وفتح باب التفاوض بين البلدين. وأعلن ترامب أيضًا عن وقفه للحظر المفروض على شركة هواوي، والسماح للشركات الأمريكية بالتعامل وتصدير المنتجات إليها.

كان هذا وصفًا مختصرًا لما حدث في ما يقرب من عام يمتد من مارس 2018م، حتى أول يوليو 2019م، فيما عرف بالحرب التجارية. قد توصل الطرفان إلى هدنة، لكن مازالت هنالك مجموعة من القضايا العالقة والتي في طور التفاوض، مازالت هناك تعريفات جمركية أمريكية تصل إلى 250 مليار دولار على السلع الصينية حصرًا، وحوالي ما يقرب من 110 مليارات دولار تعريفات جمركية صينية مفروضة على السلع والمنتجات الأمريكية تحديدًا[2].

لا يخفى على القارئ أن مثل هذه الحمائية Protectionism ممثلة في التعريفات الجمركية تمثل تحديًا وعاملاً سلبيًّا على حركة التجارة العالمية وتدفق السلع بين الدول، كما ينشر عدم الثقة والإحجام بين طبقة المستثمرين -وفقًا للمنظور الليبرالي- مما قد يوشك بحدوث ركود اقتصادي.

الصورة ليست سلبية لهذه الحرب؛ إذ إن هذين العملاقين الاقتصاديين -نتيجة ارتفاع تكلفة التبادل التجاري مع الآخر- ربما يلجآن إلى فتح أسواق جديدة مع الاقتصادات الصاعدة في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وهو ما حدث بالفعل؛ إذ إن معدلات النمو الاقتصادي في فيتنام، على سبيل المثال، قد زادت بشدة خلال عام الحرب نتيجة لجوء القوى الاقتصادية إليها كبديل للاستيراد والتصدير المكلف.

مشكلة الدراسة وتساؤلاتها:

إن إفريقيا ليست بمعزل عن هذه الحرب سلبًا أو إيجابًا، ولكن بالطبع يختلف درجة التأثير وفق عوامل عدة؛ من أبرزها: قوة الاقتصاد وهشاشته، ومن ثم قابلية انكشافه أو امتصاصه لتأثير هذه الحروب التجارية بين القوى الاقتصادية العملاقة؛ هذا على الناحية السلبية. من الناحية الإيجابية، هل القارة الإفريقية تمتلك اقتصادًا وإمكانيات تؤهّلها لأن تكون خيارات بديلة للدول الاقتصادية الكبرى؟

تسعى هذه الدراسة إلى معرفة تأثير الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على القارة الإفريقية، ولهذا فإنه يمكن صياغة المشكلة البحثية التي تسعى تلك الدراسة لفهم ومحاولة تقديم إجابة لها في السؤال التالي: ما أثر الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على إفريقيا؟

ينبثق من هذا السؤال الرئيسي عدة تساؤلات فرعية:

1- تفترض الدراسة أن القارة الإفريقية ليست بمعزل عن التأثر بهذه الحرب الواقعة فعلاً؛ اختبارًا لفرضية التأثر الإفريقي بالحرب، ما طبيعة الاقتصاد الإفريقي، وهل هذه الطبيعة تؤهّله لامتصاصه آثار هذه الحرب، أم أنها تجعله عرضة للانكشاف الاقتصادي، ومن ثم تبعيته وعدم استقلالية اختياره لموقفه إزاء هذه الحرب التجارية؟

2- ما الآثار السلبية والإيجابية المباشرة لهذه الحرب التجارية على القارة الإفريقية؟

3- إذا خُيِّرَت القارة الإفريقية بأخذ موقف -منحازًا كان أم محايدًا- تجاه طرفي الصراع، هل القارة الإفريقية تمتلك رفاهية الاختيار واستقلالية القرار، أم أنها مجبولة على تبنّي موقف معين إزاء هذه الأزمة؟

4- تعد جنوب إفريقيا متمايزة اقتصاديًّا عن بقية الدول الإفريقية من حيث القوة والاندماج في الاقتصاد العالمي، ما هو التأثير المباشر لهذه الحرب التجارية على الاقتصاد الجنوب إفريقي؟

5- ما المقترحات -كأفارقة- بشأن كيفية التعامل مع هذه الحرب التجارية من أجل تحقيق الصالح لإفريقيا؟

مقدمة:

يصعب القول بأننا في إفريقيا أو حتى في مكان في العالم بمعزل ومنأى عما يدور في تلك الحرب. هاتفك الذكي الذي بين يديك الآن، هو سلعة هجينة تجمع في داخلها مكونات شتَّى من بقاع العالم، وبالتالي عندما تُفرض ضرائب وجمارك على سلع صينية وأمريكية سيؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعارها بمقدار الضريبة المضافة، وهو ما سينقل العبء على المستهلك لهذا الهاتف الذي به شرائح رقيقة صينية ومجمعة في الولايات المتحدة ومباعة في السنغال مثلاً. مع هذه الضرائب والجمارك المتصاعدة التي يبدو أنها ليست لها أيّ نهاية قريبة رغم الهدنة المؤقتة، ينخفض معدل النمو العالمي، وينتشر عدم التأكد والثقة، الأمر الذي يدفع بالإحجام عن المزيد من الاستثمارات في ظل عدم اليقين هذا[3].

أولاً: مخاطر الاعتماد على عدد قليل من السلع للتصدير

بجانب الاعتماد التكنولوجي والرقمي الإفريقي على الصين. فإن معظم دول القارة الإفريقية ما يزال يقوم اقتصادها على بيع المواد الخام، الزراعية منها والمعدنية، وبالتحديد للصين. يقوم 95% من عائد النقد الأجنبي في جنوب السودان على تصدير المواد البترولية للصين. فيما أنجولا تقوم بتصدير ما يقرب من 60% صادراتها من بترول ومعادن إلى الصين. وتستورد الصين ما يقرب من 45% من الماس والمعادن الزيمبابوية[4].

معظم الدول الإفريقية تعتمد على تصدير سلعة واحدة أو اثنتين على أقصى تقدير، ولعدد محدود من الدول المستوردة، وهو أمرٌ في غاية الخطورة؛ إذ إن إحجام الدول المستورِدة في بعض الأحيان يؤدي إلى هزة عنيفة في الاقتصاد المعتمد على ريع هذه السلعة. على سبيل المثال، تقوم جنوب إفريقيا بتصدير ما يقرب من 70% من صوفها الشهير إلى الصين. إلا أن الصين رفضت في بداية 2019م استيراد الصوف الجنوب إفريقي؛ وذلك بسبب انتشار الحمى القلاعية، وأعلنت اعتمادها على أستراليا ونيوزيلندا، مما سبَّب ضررًا بالغًا لهذه الصناعة المهمة في هذا البلد.

ووفقًا لمسؤول في بنك التنمية الإفريقي؛ فإنه نتيجة لهذه الحرب التجارية، فإنه من المتوقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.7%، وكان هذا التصريح في منتصف 2018م[5]، أما الآن ومع اشتعال الحرب فمن المتوقع الانخفاض بمقدار 2.5% في الدول الإفريقية المعتمدة على نوع واحد أو اثنتين من السلع للتصدير.

ما يزيد الأمر تعقيدًا أننا -وفق علم الاقتصاد- في نهاية ما يُعرَف بـCommodity Super Cycle، وهي باختصار ارتفاع قيمة المنتجات عند بداية الألفية، ووصولها إلى الذروة في نهاية العقد الأول من هذه الألفية، وعقب انتهائه صاحب ذلك نهاية هذه الدورة والذي تتسم نهايتها بهبوط حاد للأسعار مما أثَّر على مداخيل الدول الإفريقية. على عكس هذا، هناك دول مثل رواندا وإثيوبيا التي يقل اعتمادهما على تصدير المواد الخام؛ إذ وفقًا لصندوق النقد الدولي، فإنه من المتوقع زيادة الناتج القومي الإجمالي في البلدين بمقدار 7.7% و7.5% على التوالي[6].

جملة القول في هذه الحرب وآثارها، هي سهولة انكشاف الاقتصاد الإفريقي وبيان هشاشته، ومن ثَم ضرورة تنويع السلع المصدَّرة والدول المستورِدة لتلك السلع؛ من أجل تجنُّب هذه الآثار السلبية.

ثانيًا: آثار إيجابية وسلبية على القارة الإفريقية جراء هذه الحرب

من الأضرار المحتمل أن تلحق بإفريقيا جراء هذه الحرب، هو خطر امتلاء الأسواق الإفريقية بالمنتجات الصينية؛ فنتيجة التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية مِن قِبَل الولايات المتحدة، فيُحتَمل أن تقوم الصين بتوجيه مصانعها لإنتاج منتجات إضافية للقارة الإفريقية محل المنتجات التي كان من المفترض تصديرها للولايات المتحدة. تمثل هذه المنتجات الصينية الرخيصة الإضافية منافسًا قويًّا للصناعات الإفريقية الوطنية، والتي هي غير قادرة على مقارعة الإمكانيات الصناعية الصينية، وبالتالي الإضرار بالصناعة الوطنية[7].

إن الصورة ليست قاتمة؛ ففي ظل هذه الحرب التجارية، وصعوبة استيراد احتياجات الدول الكبرى من بعضها البعض، يلجأ بعض الدول إلى أسواق أخرى كأسواق الدول الصاعدة للوفاء باحتياجات مواطنيها، وبالتالي زيادة الطلب على منتجاتها وأسواقها والاستثمار فيها Trade Redirection[8]. على سبيل المثال، زاد الاستثمار الأجنبي المباشر في فيتنام بنسبة تقترب من 81% وفق إحصاءات لوزارة الاستثمار والتخطيط الفيتنامية، بيد أنه في اعتقادي، فإنَّ إفريقيا ودولها، وحتى جنوب إفريقيا ستكون غير قادرة على استغلال هذا الجانب الإيجابي من هذه الحرب؛ وذلك لأنها ستواجه منافسة شديدة Fierce Competition للغاية من الدول الصاعدة في شرق آسيا؛ كفيتنام، وكمبوديا، ولاوس، وتايلاند من أجل الاستحواذ على اهتمام الدول الكبرى[9].

إن الحل لإفريقيا من أجل الاستثمار في هذه الأزمة -التي لا تبدو أنها على وشك الحل- هو عملية التصنيع، ولكن عملية التصنيع تحتاج إلى عقود زمنية طويلة من تحسين البنية التحتية، والكهرباء، والطرق، والموانئ -الموجودة على استحياء في إفريقيا- وعوامل أخرى كالحوكمة، وإحكام الرقابة على الفساد[10].

من الجوانب الإيجابية أيضًا أنه نتيجة للضرائب الانتقامية المرتفعة التي تصل إلى 25% والتي فرضتها الصين على منتجات فول الصويا الأمريكي، والذي تعد الصين أكبر مستورد له، سعت شركات الاستيراد الصينية إلى البحث عن أسواق أخرى بدلاً من السوق الأمريكي المكلِّف لاستيراد تلك السلعة الزراعية الخام. وقد استفادت كلّ من جمهورية الكونغو الديموقراطية وإثيوبيا ورواندا وأوغندا من هذا التحول من خلال الاستثمار وشراء هذه السلعة من هذه الدول الإفريقية الأربع؛ إذ ارتفع سعر تصدير تلك السلعة بمقدار 25% ليصل سعره من 520 دولارًا أمريكيًّا في الشهور السابقة إلى 650 دولارًا أثناء الأزمة[11].

على جانب آخر، هناك نية لدى الصين للقيام بتخفيض صادراتها من المعادن كرد فعل عقابي؛ جدير بالذكر أن الصين تملك ما يقرب من ثلث مخزون المعادن النادرة، والتي يبلغ عددها 17 عنصرًا Rare Earth Minerals، وتستحوذ على نسبة 70% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن[12]. وتعد الولايات المتحدة أكبر مستورد لهذه المعادن؛ حيث يصل نسبة استيرادها من الصين إلى 80%[13] مما يؤدي إلى حدوث أضرار جانبية من خلال ارتفاع أسعار تلك المنتجات على المستهلك، وهي لا تدخل فقط في صنع منتجات كالهواتف الذكية، والحواسب، والأجهزة الكهربية، بل تدخل أيضًا في صناعات تمس الأمن القومي الأمريكي كالرادارت وأنظمة الرؤية الليلية والمركبات وأجهزة الليزر.

وقد تحدَّث مسؤول من وكالة الدعم الاستراتيجي التابع لوزارة الدفاع البنتاجون Pentagon’s Defense Logistics Agency (DLA) عن أن الولايات المتحدة عازمة على البحث عن مصادر للمعادن النادرة بعيدًا عن الصين. وبالفعل بدأت وزارة الدفاع الأمريكية الحديث مع بعض الشركات الإفريقية المُصَدِّرة لهذه المعادن، منها Mkango Resources Ltd من مالاوي، وشركة Rainbow Rare Earths Ltd من بوروندي؛ وذلك من أجل ضمان إمدادها بتلك المعادن[14].

ثالثًا: اختيار إجباري

خلال فترة العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على شركة هواوي التي تعتبر لاعبًا أساسيًّا في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في إفريقيا؛ كان الاختيار تكنولوجيًّا بين الصين والولايات المتحدة مِن قِبَل القارة الإفريقية هو أمر حتمي مفروض عليها عاجلاً أم آجلاً.

ولكن قبل اتخاذ القرار، لا بد أن نرصد بعض الحقائق التي هي أمر واقع، ولا يمكن التغافل أو التغاضي عنه:

أولاً: إن شركة هواوي Huawei هي رابع أكبر شركة من حيث مبيعات الهواتف الذكية Smartphones في إفريقيا، وهي بذلك تأتي خلف شركة صينية أخرى كبرى أيضًا، وهي شركة Transsion وهي الشركة المنتِجة للهواتف الذكية من أنواع Tecno و Infinix. ثانيًا: أربعون دولة في إفريقيا هم مجال وساحة عمل شركة هواوي. ثالثًا: وفقًا للمعهد الاستراتيجي الأسترالي، فإن هواوي قد بنت على الأقل خمسين بالمائة من شبكات الجيل الرابع في القارة الإفريقية. رابعًا، تسيطر هواوي على ما يقرب من سبعين بالمائة من صناعة الاتصالات في جل القارة الإفريقية[15]. خامسًا: لتوضيح التجذُّر الصيني في صناعة التكنولوجيا في إفريقيا، فإن أوغندا مثال جيد لهذا الاعتماد، حيث قامت أوغندا بإطلاق مشروع قومي لمدّ كابلات الفايبر لنقل الإنترنت بطول 2400كم، ولأجل تنفيذ مثل هذا المشروع، قامت كامبالا باقتراض 107 ملايين دولار من بنك Exim Bank of China. وإذا سرت في شوارع كمبالا، فسوف ترى الهواتف الذكية الصينية عالية الخدمات التكنولوجية منخفضة التكاليف حيث تباع بسعر يصل إلى ثلاثين دولارًا، إن واحدًا من كل ثلاثة هواتف ذكية في عموم إفريقيا من نوع Tecno، والذي ينتج في مقاطعة شنزن في جنوب الصين[16].

إن مؤشرات هذا الاختيار قد بدأت في الاتضاح؛ إذ قام الاتحاد الإفريقي بتوقيع مذكرة تفاهم مع شركة هواوي في مستهل شهر يونيو، وهي امتداد لتفاهم سابق تم في فبراير2015م. هذه الشراكة هي تعاون في مجالات Broadband، وإنترنت الأشياء Internet of Things (IoT)، والحوسبة السحابية Cloud Computing، والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence ، وشبكات الجيل الخامس. الغريب في الأمر، أن نفس الاتهامات المتعلقة التي وُجِّهت لهواوي بالتجسس لصالح بكين على الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، قد وجّهتها صحيفة لوموند الفرنسية Le Monde، في عام 2018م، للشركة الصينية بأنها سرَّبت بيانات خاصة بالاتحاد الإفريقي في عام 2012م للحكومة الصينية، وهو الأمر الذي نفاه رئيس المفوضية الإفريقية موسى فقي محمد لاحقًا[17].

ويعتقد ديفيد اكوي وهو مدوِّن مختص بشؤون الاتصالات من أوغندا، أن إفريقيا لا تمتلك رفاهية الاختيار بين الصين والولايات المتحدة؛ إذ إنها وفقًا للمعطيات المذكورة في الفقرة السابقة، إضافة إلى غياب الإرادة السياسية لدى القادة الأفارقة لبناء نظام تكنولوجي إفريقي مستقل عن هذه الدول -مما يجنِّب القارة الوقوع في مأزق هذه الصراعات الاقتصادية الكبرى- هي مجبَرة على الوقوف بجانب الصين، وعدم التخلّي عن تكنولوجيتها المتجذرة في البناء الرقمي الإفريقي[18].

إن القول بأننا في صدد الدخول في حرب باردة بين معسكرين اقتصاديًّا هو وارد وواقعيّ؛ فالصينيون قد اعتبروها متعلقة بالكرامة الوطنية. وترامب يصرّ على موقفه رغم تقلباته تفاوضيًّا في مسائل أخرى بين اللين والشدة. سيصبح العالم وليست إفريقيا فقط أمام خيار الاختيار بين المعسكرين بين Facebook و Google الأمريكيتين، و We Chat و Baidu الصينتين.

ومما زاد الأمر تعقيدًا: تصاعد التيارات الشعبوية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية كالهند مثلاً، مما يزيد من عملية الاستقطاب. وهناك عدد قليل من الكيانات والدول لديها القدرة على تشكيل كتلة من عدم الانحياز الاقتصادي، تعينها قدراتها الاقتصادية القوية نسبيًّا كالاتحاد الأوروبي في عدم الوقوع في نفوذ أحد المعسكرين. بالتأكيد إفريقيا ليس لديها أيّ قدرة على المناورة بسبب وضعها الاقتصادي والتكنولوجي المتأخر. ربما تكون أقل جذبًا للاهتمام بسبب هذا التخلف، إلا أنها بصورة أو بأخرى ستقع في حيِّز التأثير والنفوذ بين القوى الاقتصادية الكبرى[19].

إن الاختيار المجبولة عليه إفريقيا ربما يحمل عواقب وخيمة عليها، فإن سياسة الولايات المتحدة المنخفضة التكاليف تجاه القارة ربما تكون عدائية عقابية مع كل ما يتعارض مع مصالحها، وهو ما عبر عنه مستشار الأمن القومي جون بولتون John Bolton المعروف بتشدُّده بشكل غير صريح أنه لا تهاون فيما يخص هذه الحرب التجارية مع الصين[20].

رابعًا: تأثير الحرب التجارية على جنوب إفريقيا كاقتصاد صاعد

ربما، وفقًا لنظرية التبعية، مازالت القارة الإفريقية على الهامش حتى الآن. فهي بعيدة نوعًا عن هذا الصراع الفوقي بين القوى الكبرى في هذه المرحلة، وفي ضوء نتيجة هذا الصراع الفوقي يترتب عليه مصير الهامش الإفريقي. ربما تشذ جنوب إفريقيا عن الهامش، وتقع في منطقة شبه الهامش أو Semi-peripheral وفقًا لنظرية World Systems Theory الماركسية؛ فهي تقوم باستغلال الهامش وفي نفس الوقت خاضعة لاستغلال المركز فهي بَيْن بَيْن. ونتيجةً لهذا التصنيف، فإن تأثير تلك الحرب هو أكثر وضوحًا في حالة الاقتصاد الصاعد في جنوب إفريقيا.

ويعترف المسؤولون الاقتصاديون في هذا البلد بوقوع التأثير السلبي المباشر على الاقتصادات الصاعدة عمومًا. كما أن أصحاب الأعمال الخاصة أيضًا يقرون بفداحة التأثير الخاص بهذه الحرب التجارية على اعمالهم؛ ويقوم جزء من الاقتصاد في جنوب إفريقيا على رأسمالية تقترب من الرأسماليات الغربية، فهو ليس اقتصادًا زراعيًّا أو صناعيًّا فحسب، بل هو يقوم على عملية بيع وشراء الأصول والسندات Financial Capitalism –وهي درجة أكثر تعقيدًا وتطورًا من الرأسمالية التقليدية- في الأسواق المالية أو البورصات في جوهانسبرج؛ حيث تعتمد حركة بيع وشراء الأسهم في تلك الأسواق على عدة عوامل في الاقتصاد العالمي.

تلك الحرب بلا شك تُضْفِي نوعًا من السلبية بشأن حركة البيع والشراء، ومن ثَم أسعار تلك الأسهم في السوق، الذين يرغب ملاكهم في الحصول على أكبر قدر ممكن من عوائد بيعها، وهو أمر لا يمكن ضمناته في مثل هذه الظروف المتعارضة مع مبادئ الرأسمالية التي ترتكن إلى ركيزة التجارة الحرة[21].

وتعد جنوب إفريقيا من دول "البريكس"؛ وهي مجموعة من الاقتصادات الصاعدة حديثًا في الاقتصاد العالمي، ويُرْمَز إلى أسواق هذه الاقتصادات بـEmerging Markets (EMs) . وفقًا لتقرير نشرته Financial Times، فإنه منذ تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة فإن قيمة أسواق تلك الاقتصادات قد تراجعت بنسبة ثمانية بالمائة، وهي نسبة تتجاوز ضعف تراجع قيمة أسواق الدول المتقدمة، مما يوضح مدى وَقْع هذه الحرب على هذه الاقتصادات، والتي من بينها اقتصاد جنوب إفريقيا.

رقم آخر متعلق بالتجارة في إفريقيا؛ حيث بلغت قيمة التجارة الصينية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء 120 بليون دولار بين عامي 2012، 2014م، وهو صعود متراكم على مدار عشرين عامًا من العلاقات الاقتصادية بين تلك المنطقة والصين. إلا أن هذا الرقم قد هبط بشدة في السنتين الأخريتين بنسبة أربعين بالمائة. وقد توقعت منظمة التجارة العالمية انخفاضًا عالميًّا للنمو من 4.6% في 2017م، إلى 2.6% حاليًا حتى قبل بدء تلك الحرب[22].

تعتمد الاقتصادات الصاعدة، ومن بينها جنوب إفريقيا، على نشاط وازدهار حركة التجارة العالمية وبخاصة بين الدول الصناعية المتقدمة الكبرى؛ السبب في هذا أنها تقوم بتصدير منتجات لا تركز عليها الدول الكبرى بسبب تركيزها على صناعات أكثر تعقيدًا. أضف إلى ذلك، هو إنتاج تلك الدول الصاعدة لما يعرف بالسلع الوسيطة Intermediate Inputs والتي تتدخل في مكونات الصناعة الدقيقة والثقيلة في دول كالصين والولايات المتحدة. وتقوم الصين باستيراد تلك المنتجات من دولة جنوب إفريقيا، لكن في ظل هذه الحرب التجارية، ووضع الولايات المتحدة لتعاريف جمركية على السلع الصينية، يؤدي إلى قلة استيراد السلع الصينية، وبالتالي قلة استيراد الصين للسلع الوسيطة من الدول الصاعدة، نتيجة صعوبة تصدير سلعها لسوق كبير كالسوق الأمريكي، مما ينعكس بطريقة غير مباشرة على بعض الصناعات في جنوب إفريقيا مثلاً. الجدير بالذكر، أن ضمن خطة 2025 Made in China in الصينية، هو زيادة الاستثمار الصيني في السوق الداخلية، مما يقلِّل الاستثمار في الخارج، ومن بينها الدول الإفريقية، هذا إضافة إلى زيادة اعتماد الصين على السلع الوسيطة من الصناعة الصينية المحلية كأساس لصناعتها الكبرى من 40% إلى 70%[23].

وتعد صناعة المركبات وأجزائها من الصناعات المهمة في جنوب إفريقيا؛ إذ إنها تجذب العديد من كبار المستثمرين للاستثمار في هذه الصناعة. في عام 2016م، عادلت صادرات جنوب إفريقيا من هذه الصناعتين ما يقرب من 15.8 مليار دولار، منهم ما يقرب من 93% من صناعة السيارات أو المركبات، 4% من صناعة مكونات السيارات[24].

تعادل صادرات جنوب إفريقيا من السيارات ما يقرب من 80% -وفق عام 2016- من صادراتها للولايات المتحدة تحت إتفاقية الأجوا The African Growth and Opportunity Act (AGOA) وهو قانون أمريكي اُصدر في عهد جورج بوش الابن في مايو 2000م ينص على منح دول إفريقيا جنوب الصحراء امتيازات وتفضيلات على صادراتها للسوق الأمريكية في مقابل ضمانات فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق العمال[25].

قامت الولايات المتحدة بفرض تعريفات جمركية متزايدة على صادراتها من الحديد والألومنيوم في العامين الأخيرين، وهي بصدد فرض تعريفات جمركية جديدة على وارداتها من السيارات. نتيجة لهذه التعريفات الجمركية المتزايدة على تلك الصناعة؛ قام العديد من مصنّعي المركبات ومكوناتها في جنوب إفريقيا بالإحجام عن التصدير للولايات المتحدة، ومحاولة تعديل خطوط الإنتاج لتناسب أسواقًا جديدة في إفريقيا أو الاتحاد الأوروبي. ويُعدّ هذا التحول خسارة فادحة لجنوب إفريقيا؛ إذ إنها ستخسر ما يقرب من قيمة 80% من صادراتها للولايات المتحدة المعفاة من الجمارك وفق اتفاقية الأجوا[26].

على جانب آخر؛ تفكر الولايات المتحدة في بعض الإجراءات الاقتصادية التي من شأنها الإضرار بشكل غير مباشر بمصلحة الدول الصاعدة اقتصاديًّا. وتستفيد الدول النامية -حسب تصنيف منظمة التجارة العالمية للدول النامية والمتقدمة- من مجموعة تسهيلات وتفضيلات عند تجارتها مع الولايات المتحدة. وتتجه الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف الدول النامية، ومن هي الدول المستحقة لتلك المعونة التجارية. وهناك نية لدى الإدارة الأمريكية إلى حرمان الدول -التي تراها الولايات المتحدة غير نامية وغير مستحقة لهذه الامتيازات- من الإعفاءات الجمركية مثل تركيا، أو أي دولة عضو في G20 - جنوب إفريقيا عضو في هذا التجمع- أو أي دولة تساهم بنسبة 0.5% فأكثر في التجارة العالمية[27].

خامسًا: التوصيات

أكَّد وزير الصناعة والتجارة والتعاون الكيني، آدان محمد، بضرورة تشكيل كتلة اقتصادية إفريقية لها وزن في الاقتصاد العالمي[28]؛ من أجل تجنُّب الآثار السلبية لهذه الحروب الاقتصادية التي هي كالرياح تعصف بالأبنية الإفريقية الهشة، وقطع روابط التبعية مع الدول الاقتصادية الكبرى، ودول الاستعمار في الماضي. وفق اعتقاده، فإن هذه الكتلة تنشأ عن طريق تعزيز التجارة البينية الإفريقية والتي مازالت تقف عند حاجز 20%، وإنشاء العملة الإفريقية الموحدة. ومن وجهة نظره، قد قطعت القارة الإفريقية شوطًا في هذا الاتجاه من خلال إنشاء اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية African free trade agreement، بيد أن هذه الاتفاقية تحتاج إلى مزيد من التفعيل وانضمام كيانات اقتصادية إفريقية كبرى لها. من الغريب، أن كلاً من نيجيريا وجنوب إفريقيا لم ينضما بعد لهذه الاتفاقية وهما أكبر الكيانات الاقتصادية والسكانية في القارة[29].

في ظل هذه الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، وانشغال كل منهما بالآخر، وعدم الاكتراث بالدول النامية الإفريقية، فإن هذه فرصة مواتية لتحقيق مزيد من التعاون والاعتماد الإفريقي المتبادل. هذا لا يعني أن الطريق معبَّد للتعاون؛ فمازالت الحكومات الإفريقية تهتم بالسلع الصينية الرخيصة التي توفِّر نوعًا من الدعم والاستقرار الاقتصادي الهشّ. أضف إلى ذلك، فإن فتح الحدود وإسقاط الحواجز بين البلدان الإفريقية، سيؤدي إلى انتقال سهل للأيدي العاملة، مما سيخلق منافسة شرسة بين الأيدي العاملة المحلية والوافدة مما سيخلق مشاكل متعلقة بالبطالة وتوفير الوظائف[30].

إن الحرب التجارية وما يصاحبها من تعريفات جمركية ستؤدي إلى تغيير قيمة السلع التي ينتجها الاقتصادان الأمريكي والصيني، وهي أغلب السلع العالمية؛ مما سيؤدي إلى تأثير مباشر على جميع دول العالم، وبخاصة إفريقيا؛ وذلك لأن الصين -وهي أحد طرفي النزاع- تعد الشريك الأول للقارة الإفريقية تجاريًّا.

ويؤكد أحد الخبراء الاقتصاديين على ما انتهى إلى آدان محمد، ويؤكد أن انخراط القارة الإفريقية فيما يُعرف بتجارة وعلاقة South-South economic relations أي: التعاون اقتصاديًّا مع الدول النامية الأخرى، سيؤدي إلى تهدئة حدة تغيير الأسعار الناشئة عن هذه الحرب وإعطائها قيمة تقترب من القيمة الحقيقية للسلع، وبالتالي إعادة توازن هذه القيم ليس فقط في الدول النامية، بل على مستوى الاقتصاد العالمي[31].

خاتمة

الاقتصاد الإفريقي اقتصاد ريعي يعتمد على سلع محدودة للتصدير وعدد قليل من المستوردين، وهو ما يعرِّضه بشدة للانكشاف والتأثر السلبي المباشر لهذه الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.

وللحرب التجارية أضرار ومنافع؛ فعلى الرغم من أن القارة الإفريقية غير مستعدة بشكل آني للاستفادة من عملية تنويع الدول الكبرى لمصادر الاستيراد كما هو الحال بالنسبة لاستعداد دول جنوب شرق آسيا. فليس لدى القارة الإفريقية رفاهية الانحياز أو الحيدة بين طرفي النزاع الاقتصادي؛ إذ إنه نتيجة اعتمادها في السنوات الأخيرة على الصين تنمويًّا واقتصاديًّا قد ضَيَّق من قدرتها الاقتصادية على المناورة بين الدول الكبرى.

إن الشفافية والتخلص من الفساد والتعاون الإفريقي الإفريقي من خلال تشكيل كتلة اقتصادية إفريقية لها وزنها هي السبل المؤدية لاستقلالية القرار الاقتصادي الإفريقي وقوته

محمد بن ناصر طالب بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية جامعة الاسكندرية
قائمة المراجع:

Articles:

1- Anonymous, “US-China trade tensions could hit African growth: AFDB”, France

2- Chan, Stephen. “Can Africa Seize a Rare Opportunity in the US-China Trade War?” , African Liberty,