حتى لا ننسى كل تلك الجراح التي مرت عليها دولتنا

خميس, 01/12/2016 - 19:35

مضت من عمر دولتنا الحبيبة عقود خمسة ونصف عقد ينيفُ قليلا وهذا أمر يحملُ من المفخرة والاعتزاز ما يحمل من الضباب والانكسار ، فمن كان يظن أن هذه الصحراء التي كانت ملجأ للفارين من سيطرة المخزن المغربي والسائحين ومن أختار الحياة والعيش بحرية مطلقة في ظروف شحيحة ومضنية جدا ستحتضنُ دولة يُكتشفُ فيها من الثروة ما لم يحتسبه إنسان قبل تحققه مطلقا ...

لموريتانيا في نفسي معنى خاص وحب خاص قد لا يحملُ ذلك المعنى والحب ما فيها من تناقض وقد يستوعب كل ذلك التناقض كلوحة واحدة ما فيها من جمال يذهل عن كل مساوئها ،

كانت هذه الأرض على شيء من الأمر ثم صارت على عكسه منذ عقود الاستقلال الأولى ، وتبدل كل شيء إلا ما رحم ربك ، وهناك أمور صعبة لا يتمالك المرء عند سماعها بالتأثر حبا وتكبيرا ، وهناك كذلك في ذلك الزمن أو في جزء منه أمور يندى لها الجبين وترق لها العين دموعا لصغر شأنها وخسته .

هما وجهان لكل منهما بريق خاص ولون خاص ، الوجه الناعم الذي يُذكر بالتضحية والصبر والعطاء من اجل الوطن وبقاءه ، والوجه الأسود الفاحم الذي يذكر المرء بدونية آباء كانوا في يوم ما لهذا الوطن قادة وشيوخا .

صحيح أن الناظر إلى تاريخ هذا المجتمع القريب وبالخصوص في الفترة التي سبقت الاستعمار وصاحبته يجد هناك أمورا ومعاملات كانت تحكم العقلية ليست من المروءة ولا في الدين من شيء ، وهي ما سهلت اختراق هذا المجتمع ، وحسب ما اعتقد أن فرنسا في تلك الفترة لو اجتاحت المنطقة بالترغيب لسهل عليها ذلك كل شيء ، ولما واجهت مقاومة تذكر في ربوعنا الحالية أنذاك ، لكن الاجتياح بالقوة جعل هناك من يرد بقوة مع ما بين القوتين من فوارق كبيرة .

منذ القرن الثامن عشر وفرنسا تتحكم في المنطقة اقتصاديا وقد استطاعت بمنحها وبمعاملاتها أن تخرب إمارات أسر ، وتُحل محلهم إمارات لأسر أخريات حسب ما جاء في الشواهد والمصادر التاريخية ، ولا يدل ذلك إلا على شح المعيشة في منطقتنا وندرة الموارد فيها في تلك الفترة .

تبدل كل شيء ولا حاجة هنا للتذكير بأيام المستعمر الأولى وما لقي من مقاومة في ثوب قناعة جهاد ورفض محلي لم يكن محل إجماع لأن الجميع يعرف ما في ذلك ، كما أنه لا حاجة هنا أيضا للتذكير بأيام الاستقلال وما صاحبها من تسليم للسلطة لأناس بعينهم والاستعجال عن ترتيب أمور ضرورية لإتمام وعي المواطنين المفقودين  والمتفرقين  في ضواحي هذه الصحراء وضواحيها الشاسعة بحثا عن الكلأ والمرعى في تلك الفترة نظرا لارتباطهم بآلات المعيشة التقليدية ، والتي تحتمُ عليهم الغياب عن كل شيء يتعلق بتأسيس الدولة التي قررت فرنسا تأسيسها .

وعلى العموم ونحن في الذكرى 56 لذلك التأسيس ، هناك أمور يستحضرها الذهن كلما حلت هذه الذكرى الطيبة منها ما هو سار يعرفه الجميع ومنها  ما هو مؤلم ولا زال يشكل جُرحا كبيرا في جسم الوطن وفي قلوب جميع مواطنيه ومحبيه .

لقد نجح المختار ولد داداه في تأسيس الدولة من شبه العدم وفي وضع لبنة شبه توافقية كذلك بين من كانت بينه وبين المستعمر خيوط علاقات وثقة متبادلة أو من طرف واحد ، ومن كان في الخط المخالف لذلك ، فأسس الدولة وحاول قدر الإمكان ضم ما يمكن من بقية أرض البيظان ، فادخل البلاد في حرب لم تمتلك لها الوسائل الكافية وولدت من الأزمات ما شكل عائقا كبيرا على استمرار حكمه هو من جهة ومن جهة أخرى على مسيرة النمو والتنمية في بلد وليد وتثقلُ خطاه غياهب الفقر والجهل والظلام ...
كان في الحرب ما كان من أمور بيّنت ضعف الدولة وهشاشتها ، كان فيها كذلك من الأمور ما بيّن أيضا جشع القادة العسكرين المرابطين على الثغور وطمعهم  بتلقيهم رشاوى وأموال من الدولة المجاورة في حرب أخرى أكثر ضراوة على المستوى الدبلوماسي والسياسي ، تحاول قدر الإمكان التأثير في موطن القرار الموريتاني وتضمينه مواقف محاكية أو مماثلة لسياسة تلك الدول .

ثم يأتي انقلاب في 10 من يوليو على السلطة الموريتانية والذي كان أول انقلاب موريتاني اختلفت فيه الآراء وتباينت فمن الناس من اعتبره ضروريا أو انقذ موريتانيا من غياهب ما كانت تسبح فيه وان حكم المختار بات يشكل خطرا على الدولة ، ومن هم من اعتبره البوابة الأولى للتوتر السياسي والفساد والمحسوبية ، وأن إسقاط حكم المختار لم يكن واردا وأن وصول العسكر شكل أكبر خطر على البلاد . ليقود البلاد المصطفى ولد محمد السالك رئيس ما سميّ وقتها باللجنة العسكرية للانقاذ الوطني ، وهذا اسم قد يُستشُف منه أن الإنقاذ هو الهدف الرئيسي للضباط المنقلبين ، وليس ثمة ما تُنقذ منه موريتانيا في تلك الفترة غير حرب الصحراء علاوة على أمور داخلية أخرى لم ترقى إلى ذلك الخطر كمشاكل الكادحين والبعثين وغيرهم من المسائل التي تُعد داخلية .

شكل الرئيس الأول المنقلب لجنة استشارة ولدت من الأزمات الاجتماعية ما كان نهاية لحكمه ، ولم تكن الجهوية والقبلية والعرقية حتى عن ذلك ببعيد ، فضلا عن ما يحيط بالرجل من ضباط كانت تربطهم علاقة ولاء بدول جوار وكانوا محسوبين على هذه الدولة أو تلك  ، ليأخذ الضباط الأعضاء في اللجنة العسكرية زمام المبادرة وينقلبوا انقلابا جزئيا يحد من صلاحيات الرئيس ويقوي من صلاحيات الوزير الأول أحمد ولد بوسيف ، ويغيروا اسم اللجنة من اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني إلى اللجنة العسكرية للخلاص الوطني ، مما يعني أن الإنقاذ وحده لا يكفي وإنما الوضع يتطلب خلاصا كليا .

كانت تلك السنوات صعبة حسب من عايشها وكانت الدولة الموريتانية على شفى الانهيار نتيجة تتابع الأزمات وتفاقمها قياسا بحجم الدولة  الوليدة وهشاشتها ، وكان الصراع السياسي في الدوائر الرسمية يأخذ ملامح متعددة اجتماعية وعرقية وقبلية حتى ، كيف نجت الدولة من كل ذلك ؟

لقد كان الوضع يتطلب على ما اعتقد وعلى ما سعى في ذلك أعضاء من اللجنة العسكرية التخلص الكامل من المشكل الصحراوي ، فأعلنوا عن الحياد التام في مشكلة الصحراء بعد مفاوضات عديدة واستشارات داخلية وخارجية ، فكانت حقبة  ولد هيدالة الرجل القوي الذي حكم الدولة  بعد أن غير دستور الحكم البرلماني وبعد أن أزاح بطريقة سلسة ولد أحمد لولي الذي سُلمت له السلطة بعد أن قبلت اللجنة العسكرية استقالة ولد محمد السالك الرئيس الشرفي الذي بات محرجا من وضعه وينتظر الفرصة السانحة للعودة إلى الحكم والنفوذ ، وقد اعتب ولد هيداله  في ذلك الوقت أنموذجا توافقيا يمكن أن يكون فوق التجاذبات الاجتماعية والجهوية الذي تذكي الخلاف السياسي الشرس بين ما يسمى (الشرق والكبلة) ولذلك لانتمائه للمنظقة الشمالية، وعلى ما يبدوا أن ذلك صار عرفا في الدولة لا بد منه

إنها مرحلة وربي صعبة ومتلونة طبعت هذا البلد بطابع خاص وشكلت ملامح ولادته الأولى والثانية ، وعلينا تذكرها باستمرار والسعي للاستفادة منها تجربة وتعقلا .

لقد افهمتنا تلك السنين أن الدولة كانت خيار صعب وإن الإبقاء عليها موجودة كان مرهونا بخيارات خارجية كبرى فالله الحمد على ذلك ، كما طبعت تلك السنين المرة بطابع خاص على أبناء هذا الوطن  ، فكيف استرشى الفساد ودب ؟ هل كان لتلك السنين دور في ذلك ؟ أم أن الأمر مرهون بسنوات الاستقرار السياسي التي عاشتها البلاد في عقودها الثلاثة الأخيرة ؟

وعلى العموم كانت تلك السنوات عائقا تناست فيه التنمية وغُيبت البنى التحتية والسعيّ إلى تشيدها ، وبقى الساسة في معزل عن الشؤون والمشاكل الاجتماعية الحقيقة ينهبون خيرات هذا البلد دون رقيب ويتمالون مع الخيارات الخارجية ويتآمرون على الدولة وشعبها طمعا في الاستفادة منهم ماديا

والغريب أن الاستقرار في هذ البلد لا بد من تصبه سنين تكون الحياة السياسية فيها مماثلة تماما للسنوات التي عقبت 1978 ، ومن يتذكر انقلاب 2005 الذي أزاح ولد الطايع بعد ما يزيد على 20 سنة من الحكم والمراحل التي مر بها التجاذب قبل الوصول إلى انقلاب 2008 يعرف ذلك جيدا ويستدركه ...!