ماذا بعد نشوة "القيام؟/الولي سيدي هيبه

خميس, 03/05/2018 - 09:23

إنها باتت بعيدة كل البعد تلك الأيام التي كانت فيها نشوة قيام الدولة الوليدة من "اللاشيء" تدغدغ أحاسيس المواطنين الجدد ـ بعدما توهموا أنهم خرجوا من قمقم "السيبة" ـ بعمق التاريخ، و ألمعية القوم من العارفين و المحدثين و المجتهدين و فقهاء النوازل الفريدين، و من شاعرية الناس و فروسية و نخوة و نجدة و حمية الرجال، و لولعية السياسيين الذين ردت إليهم فرنسا مرغمة بفعل الذكاء الخارق بضاعتَهم من الدهاء العاقل و الممارسة الهادئة الرفيعة البناءة، و من شدة بأس ونارية المقاومين و قوة فتاوى المفتين.. مشاعر جياشة جميلة تكسرت بمرارة على جدار واقع المكر السميك، و الخداع المرسل على عواهنه، و الغش المرضي، و الجشع الماحق، و الاحتيال الوضيع على خلفية استغلال الخطاب الديني المحرف يدعمه الكسل الخبيث و استبطان كل روح السيبة و أدواتها الظالمة.

 

و ها هو اليوم كُل الخوض في الحياة يُعري حقيقةُ هذه السباحة المريرة ضد التيار العام لوجهة البشرية حول العالم التي باتت تلتقي في ظل توحد مفهوم الدولة الحديثة بكل أشكالها و أنماطها.. فما عاد بذاك أي منطق يبرر شذوذ الأفعال و لا متعمد الأخطاء التي بات معها واقعُ الحال وشاية مفضوحة بأنه لا "روح" البتة لدى البلد تُوجه المسار، تُحاسب فيه و تُصحح. و لذلك فإن كل القواعد أصبحت مقلوبة رأسا على عقب ليبدوا:

 

·        المثقفون أذيالا و خداما لعديمي المعرفة و ضعيفي الثقافة من المستأسدين الأجلاف،

 

·        و الرعاع و نساءهم و أبناءهم بالفطرة العصية و التصرف الأرعن الغلاب أرباب المال و أسياد القرار،

 

·        و المتملقون و المرجفون و المنافقون أصحاب الحربة السياسية من غير منافس.

 

و لإن كانت القبلية قد ضعفت في بنيتها الأصلية التي كانت تحمل بعض معاني و قيم و ثوابت، فإنها أضحت أشد بأسا و أكثر تمردا على القيم و الخصال الحميدة و قد تقمصت ثوب العشائرية و الأسرية الضيقتين لتمتصا كامل قوتها و تخليانها، في طور تحكمي جديد، من كل علامات النبل فيها حتى أضحت

 

 قبلية عامة بكثافة الإعلان و التعظيم و عشائرية أسرية محصورة في واقع حالها الجديد داخل دائرة ضيقة قوام قوتها و بقائها جنيُ المحصول ضمن التقاسم العام لثروة و تسيير و توجيه دفة البلد في بحر لجي من الاختلالات البنيوية، الاجتماعية، الاقتصادية و السياسية الخانقة.

 

و من هنا فلا غرابة أن يتصف الواقع الجامد في ظل ازدواجية الماضوية المستفحلة بكل سلبياتها من جهة، و التخلف الميداني بكل تجلياته من جهة أخرى ب:

 

-         الزبونية التي تقوض بكل سلبياتها أي جهد تنموي يراد له أن يقوم حيث لا تكون إلا على خلفية النهب الممنهج للمال العام برسم عناوين المشاريع و غياب التنفيذ،

 

-         و المحسوبية الوبائية حيث لا رجل مناسبا في المكان المناسب و لا عدالة في توظيف المناصب و الوظائف و المسؤوليات إلا أن تكون بين متقاسمي الحضور السلطوي على خلفية السياسوية القبلية العشائرية الشرائحية العصاباتية الموسمية في حل من مصلحة البلد العليا،

 

-         و بتغييب التخطيط الملزم تطبيقَ البرامج و تنفيذَ المخططات حتى لم يكن للبلد أي قاعدة صناعية أو بنى تحتية أو سكة حديد أو شبكة طرق أو خطوط نقل بحري و نهري أو أخرى جوية تنافس بعد ستين عاما من الاستقلال و ما تم استكشافه أثناءها و تبديده، و يكتشف من المعادن الأكثر استخداما في الصناعة العالمية الثقيلة حديدا و نحاسا و ذهبا و غيرها، و من مصادر الطاقة نفطا و غازا و شمسا و رياحا، كل ذلك علاوة على أراض صالحة للزراعة الصناعية و من أنواع السمك و عوالق البحر الثمينة و غير ذلك من ثروات المحيط التي لا تحصى.

 

و أما الذي أدام هذه الوضعية الشاذة في القرن الواحد و العشرين فهو ما ظل متبعا في التعاطي السياسي الذي ألبس عند أول وهلة ثوب "السيباتية" قبيل و بعيد الاستقلال حيث تدثرت الأحزاب - التي نشأت حين ذاك على خلفيات قبلية و جهوية لا تخفى البصمات فيها - لاحقا بأثواب الانتهازية المرحلية و المتاجرة بقيم العصر كالبحث عن العدالة الاجتماعية و المساواة في الحقوق و الواجبات و ترسيخ المواطنة و تبني النهج الديمقراطي زيفا و خداعا حيث الحيف عملة تداول و الإقصاء و الانتقائية و المحسوبية وسائل للغبن الممنهج عند كل تناوب على مار القوة و الصمت و القبول كما كان الحال من القبل القيام.