جميعا من أجل القضاء نهائيا علي مخلفات الاسترقاق.

جمعة, 23/09/2016 - 12:22

جميعا من أجل القضاء نهائيا علي مخلفات الاسترقاق : هذا شعار يجب أن يتخذه كل واحد منا، ويتبناه. يجب أن يكون مضمونه لنا شغلا، وديْدنا، وهِجّيرى. 

إذ لا عمل أكثر نبْلا من التصدي لمخلفات الرق  (مظاهر، مسلكيات، أفكار مسبقة، صور نمطية، آراء فاسدة، تصرفات، أفعال، أقوال، أعمال ....)، ومكافحة آثار العبودية، والتي تتجلي أساسا في الفقر المدقع والاحتياج، حيث لا يزال يعاني من الفقر الشديد الآلاف من مواطنينا؛ والذين هم موريتانيون بكل الاعتبارات، وفوق ذلك كله، وقبل ذلك وبعده، مسلمون!
مسلمون، من بني عقيدتنا السمحة وملتنا الغراء، ومن أهل القبلة الذين عرفوا علي مر العصور بإفراد الله بالعبادة وبإخلاص توحيده، كأنْقي ما يكون التدين وأسْلمه. والذين، وبالرغم من ذلك كله، لم يسْلموا للأسف الشديد من ممارسة العنف عليهم، بالاعتداء علي كرامتهم، وسلبهم حقوقهم الانسانية البسيطة، بل حوّلوا إلي متاع رخيص. كل ذلك مورس عليهم من طرف ''موريتانيين'' من بني وطنهم الواحد، و''مسلمين'' من بني ملتهم. فيا للبشاعة والفظاعة، حين تحوّل المباديء السامية لآخر ديانة سماوية، أعلنت منذ الوهلة الأولي لانتشارها أن الناس سواسية، كلهم لآدم وآدم من تراب. إنها لعمري مذلة، ومزلة ما بعدها مزلة، وقع فيها بعض هذه الأمة. أن يستعبد إنسان باسم أزكي و أسمي الديانات وأكرمها علي الله، أكثرها رحمة ورفقا بالبشر، أكثرها دعوة إلي السلام والسلم والمسالمة، والتآخي والمحبة.
لكن، لنخْتر تجاوز كل ذلك. لنطوي تلك الصفحة. لننسي تماما هذه الحقبة السوداء من تاريخنا. والقرآن الكريم يرشدنا ويعيننا علي ذلك، حيث يقول سبحانه جل من قائل : '' تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولا تسألون عما كانوا يعملون '' (البقرة، 141). كمْ هو رائع هذا المبدأ الذي يرشدنا القرآن إلي تبنّيه. إنه مبدأ يعيننا علي تجنب الوقوع في خطإ تحميل فئة معينة من المجتمع كامل المسؤولية عن الرق والاسترقاق والعبودية في البلد، في الوقت الذي مورس فيه من طرف الجميع. إنه مطبّ حرج، ومنزلق صعب، بل هاوية سحيقة يجب الحذر كل الحذر من الوقوع فيها. يجب تفادي تحميل المسؤولية وإلقاء اللوم علي فئة معينة، وجعلها مسؤولة عن تصرف ''أمة قد خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت''!! .
فلديْنا الأفضل من الاشتغال بالماضي وذلك أن نتوجه جميعا إلي الأمام. أن ننظر إلي المستقبل، ونسعى بجد للأمر الأهم : ألا وهو بناء موريتانيا المستقبل. موريتانيا الغد المشرق والسعيد؛ تلك التي ’نقْسم جميعا بأغلظ الأيمان وآكدها وأوثقها ، وقد حسمْنا أمرنا، نقسم ، أن لا تعرف عبودية ولا استرقاقا ولا اسغلالا، ولا هضما ولا بخسا ولا ظلما. نعم، علينا أن نختار طيّ صفحة الماضي الأليم والتوجّه إلي المستقبل الواعد. نعم، لنطوي الصفحة. ولكن لنطوها بذكاء، وحكمة، وتبصر.
فحيثما أصرّ الاسترقاقيون، المتخلفون، الآفنون، الآثمون، بعد صدور فتاوي سقوط وتحريم العبودية شرعا، وبإجماع تام من طرف علماء البلد؛ حيثما أصر الاسترقاقيون هؤلاء، علي تأبيد ممارسات استعبادية، أو تصرفات استرقاقية، أو مواقف مهينة للبشر، أو آراء فقهية بعيدة من الفقه السليم، هي في الصميم من عهود الانحطاط والمذلة والهوان علي هذه الأمة، عهود ''نخاسية'' بامتياز، وظف فيها علماؤنا، وللأسف الشديد، كل طاقاتهم الفقهية الهائلة في تشقيقات واجتهادات، بعيدة كلّ البعد من روح الإسلام، ومقاصده، وسماحته ورحمته، ونصاعته، ومساواته، وإنصافه، وعدله؛ أقول، حيثما أصرّ هؤلاء علي ما ذكرنا، فعلينا أن نجرّهم إلي محاكم الاسترقاق التي- ولله الحمد تم إنشاؤها في بلادنا -  خصيصا لهذا الغرض. إذ لم تعد موريتانيا، لا علي المستوي الرسمي، ولا علي المستوي الشعبي، تقبل بالاسترقاق ولا بمظاهره.
فـ ''الفتاوي'' الشرعية الضرورية تم تأصيلها وتفصيلها ونشرها. والمحاكم الضرورية المختصة تم نصْبها. والمدافعون عن حقوق الانسان وعن الكرامة الانسانية يمارسون عملهم بكل حرية. طبعا، لا نتحدث هنا إلا عن المدافعين عن حقوق الانسان الذين لا يستغلون عملهم لأغراض سياسية، ويخلصون في نضالهم لأوطانهم وشعوبهم. وبعد كل ما ذكر، فلم يعد هناك من عذر في عدم تقديم ''العبوديين''، و''الاسترقاقييين'' الذين يخالفون القانون والشرع، إلي المحاكم المختصة.
وحيثما أصرّ ''الراديكاليو''، المتطرفون، المتشددون، العنصريون والحاقدون، والذين هم ''طائفيون'' و''سماسرة'' و''باعة متجولون'' للقضايا النبيلة؛ حيثما أصرّ هؤلاء علي الهدم، فعلينا البناء. و كلما أصروا علي التفرقة، وسعوْا جاهدين إلي نفْذ سمومهم في المجتمع، فعلينا الدفاع عن الوحدة والتضامن، ونشر المحبة والوآم. ذلك بأن الذين يعمدون إلي الاستغلال السياسي، السمج والوقح، لقضية إنسانية محضة ومقدسة كهذه، ليسوا بوطنيين. وحين يصرّون استغلال ''الدفاع عن المستضعفين'' وتوظيفه سياسيا، فإنهم بالتأكيد ليسوا أوْفياء ولا أمناء.
إنهم، بإصرارهم علي ''تسييس'' هذه القضية، سينتهون لا محالة، بالانقلاب علي أوطانهم، وذلك في غمرة بحثهم عن دعم وتأييد خارجي، لا يمكن أن يكون مبدئيا، إلا تواطئا مشبوها. إن القضية برمّتها، يمكن اعتبارها ''قضية وطنية'' بالدرجة الأولي، وهي بالفعل قضية جميع الموريتانيين من غير استثناء، إذ لا تعدو كونها في الحقيقة ضرورة محاربة آثار ومخلفات ظاهرة بغيضة عرفها العالم أجمع.
وعندما يصر هؤلاء علي زعمهم بأننا لا زلنا نمارس الاسترقاق في أيامنا هذه، علي أرض دولة الجمهورية الاسلامية الموريتانية الفتية،  وذلك إرضاء لأعداء الوطن وخصومه، فإنهم إنما يفْترون بهْتانا، ويحملون إفْكا. لأننا ببساطة، وبكل تأكيد، لم  نعد نمارس العبودية في بلادنا. وبعيدا عن قصد الدخول في الجدل والمراء، أو الانحياز، أو التموقع؛ فلا أحد يستطيع افتراء كذبة من قبيل أن ''العبيد'' لا يزالون يباعون في العلن. لا أحد يستطيع هذه الفرية. مع أن هذا حدث، وعلي هذه الأرض، تماما كما جدث ذلك في أصقاع العالم والدنيا كلها. ولكن كان ذلك قديما. ولم يعد موجودا. هذه هي الحقيقة الدامغة، لم يعد ذلك موجودا، إطلاقا، لا في بلادنا ولا في أي بقعة من العالم المتحضّر. اسأل أي مواطن بسيط، يجبْك أن العبودية لم تعد موجودة في موريتانيا.
إذا، والحالة هذه، وإذا كان الأمر علي ما تم إيضاحه، وهو كذلك بالتأكيد، فماذا تبقّي؟ وما هي حقيقة ما نعاني منه في بلادنا بخصوص هذا الموضوع ؟ الجواب واضح وبسيط : لم يبق من العبودية في بلادنا إلا آثارها، ومخلّفاتها، ورواسبها. هذا كل ما تبقي.
ولكن حسبك بالآثار والمخلفات والعواقب لمصيبة كالاسترقاق، همّا وغمّا. فمخلفات أي مصيبة، من أي نوع كانت، تعني المعاناة المادية والمعنوية. أمّا أن يكون الشخص ضحية تصرفات أجيال سبقته بكثير، فذلك يعني أنه يكابد عذابات وويلات معاناة من نوع لا نظير له، إذ تصل تلك الآلام في أحيان كثيرة إلي حد الاحساس بالضياع، والحيرة، والحسرة والألم النفسي، والمقاساة الاجتماعية، والثقافية. أجل، إن آثار الاسترقاق تعني المعاناة اليومية، المتمثلة في الفقر المدقع، والعوز، والجوع، والمرض، والجهل، والأمية الأبجدية والحضارية، والسكن غير اللائق، والتشرد، والتسرب المدرسي، وسهولة منزلقات جنوح الأحداث، في عالم لايرحم. وتيرة ثوْرته الرقمية جنونية، وآثار عوْلمته الجارفة لا تبقي ولا تذر. ودول العالم الثالث، ومن بينها موريتانيا، تشقّ طريقها فيه نحو التنمية والحداثة والرقي، في خضم بحر من التناقضات المعقدة، والحواجز الصعبة، والعقبات الكأداء، لا يعلم كنهها إلا الله. كل ذلك يزيد، وبدون أدني شك، من معاناة الذين يعانون من مخلفات الرق.
لأجل ذلك كله، ولأجل مصلحة ومستقبل بلادنا، علينا جميعا أن نجعل من معركة القضاء علي مخلفات الرق، ''قضية وطنية'' بامتياز. وأن يقدّم كل واحد منا ما بوسعه تقديمه للقضاء علي تلك المخلفات، مهما كان حجم أو نوعية إسهامه متواضعا.
ولْنكن يقظين أثناء خوضنا لمعركتنا هذه، بأن نقطع الطريق أمام كل من تسول له نفسه أن يستغل الموضوع سياسيا، أو يحاول تحويله إلي قضية فئة دون فئة، أي أن يستغل الموضوع بشكل سمج وفجّ. ولكن كيف ؟ كيف نخوض هذه المعركة، وبهذا الشكل؟
يكون ذلك بجعل مسألة القضاء نهائيا علي مخلفات الرق، قضية الموريتانيين المقدسة جميعا. فهي معركتنا الحاسمة جميعا، وهمّنا المؤرق جميعا، إذ أنها تمسّ في الصميم وحدتنا الوطنية، ولحمتنا الاجتماعية.
ولأن القضاء علي مخلفات الرق، وكل ما ترتب علي الاسترقاق كممارسة وسلوك قديم من معاناة وآلام؛ وكل ما يلفّ هذا الموضوع من جوانب حساسة ودقيقة، وتعقيدات بالغة، تعْنينا نحن فقط؛ فنحن الموريتانيين وحدنا، ودون سوانا، القادرون علي حلها.
ولأن القضاء التام والحاسم علي آثار الرق والعبودية أصبح واجبا، بات لزاما علي كل واحد منا أن يحوّل هذا الموضوع إلي قضيته الأولى وأن يعتبرها معركة مقدسة يخوضها شخصيا، من أجل تعزيز الوحدة والسلم الاجتماعي، ومن أجل الحفاظ علي لحمة شعبنا الواحد.
فالعبودية في جميع تمظهراتها وتجلّياتها، وطفْوها علي السطح، من حين لآخر، نتيجة مسلكيات أضحت غير قانونية، وغير شرعية، يصرّ البعض عليها إصرارا آثما؛ تماما كما يصرّ آخرون علي استغلالها سياسيا من أجل بثّ التفرقة وزرع الشقاق والنزاعات، هي قضيتنا جميعا. فما علينا إلا أن نتناول الموضوع بالشكل الصحيح، أي الذي يحدم و يعزز الوحدة الوطنية. علينا إذا تحويل هذا الموضوع إلي موضوع الساعة، فنتناوله في نقاشاتنا، وحواراتنا، وفي أحاديثنا العادية حول الشاي، وخلال زياراتنا العائلية، في الصالونات، في المكتب، في التاكسي، في الشارع، في المسجد، في المدرسة، في المقاهي؛ في كل مكان، و حيثما نمر، علينا أن نوضح الموضوع ونطرحه بالشكل الصحيح الذي يخدم المصلحة العليا للوطن، والشعب الموريتاني، ويحافظ علي أمنه، واستقراره، وسلمه. علينا بالتأكيد ذلك، حتي نتمكن من :
1-تجاوز هذه المرحلة من تاريخ بلادنا، وذلك عبر القيام بإنجاز أعمال تضامنية عملاقة، يكون لها وقع كبير وأثر طيب علي إخوتنا الذين لا يزالون يعانون من آثار الاسترقاق. ولم لا يكون ذلك عبر خطة كبيرة، كـ ''خطة مارشال'' مثلا ؛ لكن بطريقة وطنية محضة، عكس خطة مزعومة من هذا القبيل ، تروج لها مجموعة من ''المسْتائين'' و''الممتعضين''، وتعوّل علي فرنسا في تمويلها ! ؛
2-العمل علي منع ''تسييس'' هذه القضية، والحيلولة دون تحقيق حلم كل من يحاول ''تسييسها'' ، كائنا من كان، ليحقق بذلك أهدافا سياسية ، ولغرض ملأ الجيوب، والتكسّب علي حساب الضعفاء والمحتاجين. كما علينا أن نسدّ الباب أمام الذين يسعون إلي التفرقة بين مكونات شعبنا، الذي عرف كيف يتعايش سلميا علي مرّ العصور، وسيبقي كذلك -إن شاء الله- موحدا بأقوى رابطة، هي آصرة الدين الاسلامي الحنيف الذي يقوم أساسا علي العدل والإنصاف والمساواة، والتآخي والمحبة والتضامن.
فإذا نجحنا في اتخاذ موقف رزين، متبصّر و رشيد، يقضي : من جهة أولي، أن نكون ’مصرّين إصرارا فعليا ونشطا، علي القضاء نهائيا علي مخلفات الرق؛ وأن نكون مصرّين كذلك، من جهة ثانية، علي عدم تسييس الموضوع نهائيا؛ فإننا نكون بذلك قد وفقنا في كسب الرهان، ونكون قد رفعنا أكبر تحدي يواجه بلدنا، وأبعدنا عنه شبح أكبر خطر يهدّده. وتلك أمنية كل الموريتانيين، وذلك رجاؤهم، بمختلف مكوّناتهم.
انواكشوط 21/09/2016
محمد يسلم يرب ابيهات