جمس بوند التيار الإسلامي / ج 1

أحد, 19/05/2019 - 23:03

أجيج كأجيج الشلالات تصب الماء من علياء الجبال، و أصوات يحسبها، من لا يعرف شيئا عن صنع الشاي في بلاد شنقيط ، دقات أجراس كنيسة في أدغال أوروبا، الفتى يافع، لا يحكم القبض على كؤوس الشاي التي يريد لزبدها أن يداعب شارب الوالد و أصدقائه و هم يفكرون في صنع نواة بلح، سيثمر ذات يوم ليبيعه نفس الشاب بثمن بخس على منابر الزعيم يوم يشتد العظم و تقوى الشوكة و يسقط العدو اللدود من علياء عرشه، و يأتي بعده حاجبه أو حارسه على أدق الأوصاف.
الشاب يقرأ و يفهم و يستقي من معين فياض، فالوالد يؤسس لحركة مهمتها الأساسية إعادة الدين إلى المشهد و مناهضة فصله عن الدولة الوليدة. لم تمضي السنين العجاف التي مرت بها البلاد حتى أصبح الشاب طالبا و قياديا في الحراك، مهيبا حاضرا بقوة تحرسه عين أب لا تنام، و عيون رفقاء دربه حيث حل الفتى و حيث أرتحل.
تلك بدايات العميل 007 في الحركة السرية للتيار الإسلامي بموريتانيا، تلك هي أولى الخطوات نحو الشهرة و اعتلاء المنابر و الخطابة و الفصاحة، تلك هي أولى خطواته نحو النجومية بالمعهد العالي، أو المعهد السعودي سمه ما شئت، فلم يكن مجرد معهد بالنسبة للعميل، بل كان مدرسة حياة، أكثر قيمة و أكبر و أجل و أعظم من كل مدارس الدنيا.
هناك لقي الرفاق و فهم معنى "السرية" بمفهومها السياسي، و "الاجتماعي" كذلك، و الإداري حتى، فهم معنى تلك العبارات المشفرة، و تلك المسميات الغريبة، التي تدعوا إلى مزيد من الاعتزاز و الفخر بصناعة الحاضر و التخطيط لما سيأتي في المستقبل.
الفتى سيكون له شأن أكبر قيمة من مجرد أن يكون سياسيا تحت عباءة الجنرال محمد ولد عبد العزيز، أو أن يكون مجرد اسم إخواني، بل أعمق من ذلك و أكثر و أكبر.
الفتى أصبح رجلا عنيدا و عصيا على الانصياع للأوامر التي تصدرها القيادات التقليدية داخل مجموعته القبلية، أدلجته جعلت منه شخصا ليس من السهل العوم في بحاره و له سبعة أبحر.
عصامي بكل ما يحمل الوصف من معنى، قناص للفرص متحين لها، أينما جاءت التقطها تماما كما تفعل رادارات المؤسسة العسكرية، و كما تفعل صحون التلفاز فوق منازل الأثرياء، يوم لم يكن هناك منها إلا القليل، يوم كانت فقط حكرا على القلة القليلة، تماما كما كانت السياسة حكرا على مشايخ القبائل، تماما كما كانت الرئاسة حكرا على أصحاب البزاة، كلما مل الناس عسكريا أزيح و استبدل بآخر.
لم يكن الرجل يريد شيئا من الدنيا سوى أن يركب الصعاب، و مهامه اللاحقة ستتحدد معالمها للقادة فقط كلما اجتاز الرجل الصعاب، و جاب المخاطر، و ذلل كل ما يقف عقبة في وجه تحقيقه لأهدافه التي رسمها له التيار الإسلامي.
الرجل لا يضاهى في سرعة البديهة، و الفهم، و القدرة الكبيرة على الصبر على الأذى، و على مناوشات أبناء العمومة و رفاق الدرب من القادة المستقبليين.
تحينه للفرص جعله دائما يبحث و يبحث يدقق و يفكر.
درس المحاماة لأنه يفهم جيدا أن هدفه في الحياة سياسي، و ملحمته سياسية، و أقرانه و من عاصرهم من زعماء العالم البارزين كلهم كانوا يساهمون بشكل غير مسبوق في تكوين شخصيته.
من صفاته الكتمان، و القدرة على التصنع، و إخفاء الرغبات للوصول إلى حيث يريد أن يصل.
كان كثير الاستمتاع بالتدخين، و شرب القهوة، و الموسيقى و هو يفكر مليا و يقرأ كثيرا، يقرأ حتى كتب الملحدين، و يفكر حتى في أفضل وسيلة تجعله يحظى بما يريد.
حين تحدث بصوت عال أمام أبناء عمومته يريد بذلك أن يلفت الانتباه إلى قدراته الخارقة، و إلى مكانته العالية، أبعدوه، شردوه، و منعوه من الكلام، فلم يعد هناك ما يمكن أن يساهم في عودته سوى انتظار نهاية النظام، و هو ما فعل بالضبط. كانت تلك أكبر خدمة قدموها له وقتئذ و هو يريد أن يخرج من دور إبن العم إلى دور السياسي المخضرم و المعارض الشرس لنظام يعرف أنه في النهاية زائل.
كان القوم من سذاجتهم و عدم فهمهم لمهمة سيدي محمد يفرحون كثيرا حين يرونه على الهامش و يتهمونه بالشذوذ و "أتبعريص" و هو يستقبط ذلك منهم لأنهم سيصنعون منه نجما، إبن عم الرئيس معارض له و ينتمي إلى تيار سري يشكل خطرا داهما على حلفاء الرئيس خاصة المملكة العربية السعودية، هذا بالضبط  ما أراد سيدي محمد أن يكون هو العنوان العريض لفترة تحول عميق في مكانة الرجل.
اقتنص الفرصة السانحة في العام 2003 و خرج من تحت عباءة الجميع محام مفوه مقتدر و إبن عم رئيس الجمهورية يدافع عن انقلابيين كان همهم الوحيد هو إزاحة النظام حتى و لو بتصفية جسد الرئيس نفسه.
تلك كانت هي أكبر فرصة لمحها العبقري و فجر فيها طاقته و أظهر فيها أنه شخص يمكن أن يثق فيه قادة التيار الإسلامي.
انتقم الرجل بوقفته تلك في محكمة مقاطعة واد الناقة من ولد الطائع و من أبناء عمومته المقربين، انتقم من الدولة العميقة و خرج على النسق القديم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فصار حديث الجميع، حتى مراهقي مدينة أطار التي لم يزرها إلا قليلا، أصبح حديثهم و شغلهم الشاغل فقط عن هذا الرجل الذي خرج على المألوف و أعطى بصيص أمل في تكسير صنمية ولد الطائع.
إبن عم الرئيس محامي الإنقلابيين صالح ولد حننه و رفاقه.
انتهز الفرصة و خاطب القاضي بما لا يليق بمقامه، فقرر حبسه، ظنا منه أنه يعاقبه، و هو إنما يوشحه بنظام فارس في الإستحقاق الإخواني. هنيئا للعميل السري لقد أصبح بهذا الوشاح من القادة.
لم يلبث الرجل في السجن إلا أياما معدودات فعبدو محم لا يمكن أن يقبل بمزيد من الشرخ بين أبناء العمومة الذين يتركز حولهم حكم إبن عمهم و يرتكز عليهم نظام الطبقية الذي خلقه هو كزعيم إخواني في مهمة سيسلمها لاحقا للعميل السري، ليست وراثة و لكن كفاءة و قدرة على أداء مثل هذه المهمة الصعبة التي تتطلب ثمنا باهظا من عمر العميل "جمس بون الإخوان" في نظام التيار الإسلامي.
خرج الرجل من السجن و واصل تحين الفرص ما سمحت له بذلك الظروف، حتى جاء يوم الإنقلاب الذي لا رجعة فيه، دخل ذات مساء على أحد أصدقاء ولد عبد العزيز و هو يريد منه أن يطلب دعم ولد عبد العزيز له في انتخابات 2006.
في نفس الأيام كان زعيم القبيلة و المنافس الحقيقي للعميل، هو الآخر على باب أعل ولد محمد فال، لم يبقى سوى أن نقول أن الحكم أصبح قبليا.
العميل السري لا يهمه من هذا كله شيء، المهم عنده هو انجاز مهمة التيار الإسلامي الذي ينتمي إليه و الوصول إلى أهدافه الكبرى التي لا يمكن أن ينجزها إلا من يملك ما يملكه هو من قدرات خارقة للعادة فصاحة و سلاقة و هدوء و صبرا.
قبل ولد عبد العزيز طلب العميل السري، و هو حينئذ يجهل مع من يتعامل، فظن أنه بتلك الطريقة إنما يبعد المجلس العسكري للعدالة و الديمقراطية عن شبهة التعامل مع رموز نظام ولد الطائع، لما عرف به هذا العميل السري من مناهضة و معارضة لنظام ولد الطائع ولما تلقاه من أذى على يدي الرجل.
أصبح نائبا في البرلمان مباشرة و دون عناء كبير، رغم ما شاب انتخابه من أزمات اجتماعية و سياسية على مستوى مدينة أطار، فلقد صدق القائل ذات مرة، و إن كان قوله حق أريد به باطل : (إنهم يستخفون بكم، يقدمون لكم مرشحا مولودا في أبي تلميت كنائب، يقصد العميل السري، و مرشحا مولودا في كيهيدي كعمدة، و المقصود سيدي أحمد ولد أهميمد) هذه المقولة خالدة في تاريخ مدينة أطار، و هي دليل قاطع على عدم فهم قائلها لمخاطر ما ذهب إليه، و لولا عدم توفر الشحنة الزائدة من الجهوية لدى سكان مدينة أطار لفشلت مهمة العميل السري.
نجح إذا و دخل البرلمان و أصبح له شأن، بين أقرانه، و فهم قادة التيار الإسلامي أنهم وصلوا إلى المرحلة الأولى من هدفهم الذي يريدونه له.
وقف ذات مرة في البرلمان و خطب فأقنع، و أدار الظهر لنظام سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، فكلف بقيادة الكتيبة التي ستعيد موريتانيا إلى الوراء لكن، العميل لديه هدف أكبر من مجرد مناوئة انقلاب عسكري يخطط له حليفه المؤقت محمد ولد عبد العزيز ضد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
قاد الكتيبة البرلمانية و قاد ولد عبد العزيز الكتيبة الرئاسية و انقضت الكتيبتان على نظام الرجل الذي لم يمض بعد على حكمه 6 أشهر، عاد الجيش من جديد إلى السلطة، و حكم الرجل بقبضة من حديد، لكن ليس مهما عند العميل كيف يحكم الرجل بل ما يهمه أساسا هو كيف يقنعه بأهمية الحفاظ على المكاسب التي حققها التيار الإسلامي في ظل حكم كل من أعل ولد محمد فال رحمه الله و سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله حفظه الله.
تلك كانت هي مهمته المرحلية، و كانت أيضا أول تجربة تمر بها هذه المهمة هي حين حبس رجال الأعمال المقربين من نظام ولد الطائع البائد، خرج الرجل بمقترح من عند ولد عبد العزيز إلى أبناء عمومته، و هو يرجوا كل الرجاء أن يرفضوا طلبه و يولوه ظهورهم و لكي يقال أن العميل السري لديه عداوة خاصة بينه و بين محمد ولد أنويكظ، و يقول البعض أنه زاد على المقترح شروطا مجحفة لكي لا يقبل تكتيكا و خبثا إخوانيا بامتياز.
و بالفعل رفضت الجماعة الطلب بشكل قطعي، ثم جاء ولد الددو إلى ولد عبد العزيز للوساطة بينه و بين رجال الأعمال، فقام ولد عبد العزيز بتقديم نفس المقترح الذي قدمه العميل السري و رفضته الجماعة إلى ولد الددو.
كان ولد عبد العزيز شبه متأكد أن الجماعة سترفض المقترح، لكن ظنه خاب.
ذهب ولد الددو و قدم للجماعة المقترح بصيغته الأصلية فقبلت به الجماعة، بشكل فاجئ ولد عبد العزيز و أزعجه جدا من العميل، لأنه بالنسبة لولد عبد العزيز تم إعطاء بطاقة رابحة لولد الددو و التيار الإسلامي دون وجه حق و ذلك بسبب ولد محم.
استدعاه إلى القصر و أنبه كثيرا و أخبره أن هذا الخطأ يجب أن لا يتكرر.
خرج العميل السري و هو فرح بهذا الإنجاز حيث أن ولد الددو أصبح مرجعية سياسية لحل الأزمات السياسية في البلد من خلال هذا الاتفاق الذي تم توقيعه بفضل تدخله المباشر بين الفرقاء من رجال أعمال و ولد عبد العزيز.
تلك كانت هي أولى مهمات "العميل السري" للتيار الإسلامي داخل نظام ولد عبد العزيز، بالفعل لم يتمكن حتى "جيمس بوند" من القيام بمثل هذه المهمة الصعبة و لم نسمع أن أي عميل سري في العالم استطاع أن يكسب فريقه مثل هذا المكسب المعنوي الكبير الذي يساوي آلاف الانتصارات العسكرية.
في الجزء الثاني سنتعرف أكثر فأكثر على تفاصيل المهام التي قام بها العميل السري لصالح التيار الإسلامي من موقعه في نظام ولد عبد العزيز و من بين هذه المهام مهام سياسية و أخرى اقتصادية و كذلك مهام استخباراتية جنبت التيار الإسلامي الوقوع في فخاخ نظام ولد عبد العزيز طيلة عشرية حكمه المشرفة على نهايتها.
و لكم أن تحكموا.
ذ/ محمد فاضل الهادي