لو كنت بدرا و جميلا لاستقلت من هذه المعارضة

جمعة, 29/03/2019 - 12:12

سميدع و بدر الدين في ربيع الاستقلال الحقيقي

ما توصلنا إليه في سياق القراءة التحليلية لتاريخ موريتانيا الحديثة أن حركة الكادحين هي الروح العام الملهم للساحة السياسية الوطنية في دولة الاستقلال، و ذلك بالمعنى الهيغلي لكلمة "الروح العام" نسبة إلى الفيلسوف الألماني هيغل. و إن الجميع، تيارات شعبية مختلفة المشارب و أجنحة متصارعة في حكومة الاستقلال كانوا يستلهمون - بشكل أو بآخر كليا أو جزئيا - هذا الروح أو هذا الوعي الفكري و هذه الثقافة السياسية العامة. حتى ليمكن القول إن المختار ولد داداه كان الكادح الأول. ما هنالك أن الرجل قد وظف الحنكة السياسية حتى انتزع الحقوق من فرنسا بطريقة سلسة، لا تفقده الغطاء الفرنسي الذي بدونه ما كان لموريتانيا أن يكون و لا أن يبقى لها وجود لحظة واحدة، في مواجهة الأطماع المغربية المدعومة بالأطماع السنغالية و المالية. و لعل ذلك ما يفسر النجاح الكبير الذي ميز مهرجان الشباب في أغسطس 1974، الذي يعتبر بمثابة مؤتمر وطني عام، بمناسبة اندماج الكادحين في حزب الشعب الموريتاني.

و من خلال تلك القراءة التحليلية يبدو لنا أنه يصعب الحديث عن وعي وطني ممهد للاستقلال يتأسس على فهم حقيقي لدولة الاستقلال و استحقاقاتها، كان يلهم المقاومة المسلحة و الحراك السياسي. و عندما يقول لك الأستاذ محمدن ولد إشدو - و لا شك أنه من أكثر الشباب وعيا يومها - إنه رافق سائقا متجها إلى نواكشوط ذهابا و إيابا من "سانلوي" بالسنغال بدافع الفضول، لحضور فعاليات إعلان الاستقلال، الذي لم يكن يدرك دلالته في ذلك الوقت، فلابد أن تثير لديك "فكرة الوعي الوطني السابق على الاستقلال" تلك الكثير من علامات الاستفهام. و ربما كان الأهم لدي اليافع "ولد إشدو" هو جو الطرب و الاحتفال و الموائد و نحو ذلك مما يهتم به "العصر" أو الجيل بالحسانية. بالمقابل تعتقد هذه القراءة أن المشروع الوطني الحقيقي سيولد بعد الاستقلال. و يمكن اعتبار المطالبة بإنجاز الاستقلال الحقيقي أو استكمال الاستقلال بمثابة الحلم أو الروح الإيديولوجي الجامع لتلك المرحلة من تاريخ البلد. و هو ذات الحلم أو الروح الإيديولوجي الملهم لحركة الكادحين.

و لفهم خصوصية "مشروع الكادحين" ينبغي القول إن الحركة ولدت من رحم مطلب التعريب و ترسيم اللغة العربية، قبل أن تراجع ذاتها و تعيد تحديد هويتها بعد الثورة العمالية في ازويرات. البداية كانت مع تأسيس نقابة المعلمين العرب عام 1960. و كان المصطفى ولد بدر الدين عضوا في المكتب التنفيذي المؤسس للنقابة، قبل أن يصبح الأمين العام في قمة حراك الكادحين في نهاية الستينات. لكن التعريب في هذه المرحلة كان بالأساس رمزا لمطلب التحرر التام من الاستعمار الثقافي، لا نزعة قومية عربية، بالمعنى الذي سنجده لاحقا لدى الناصريين و البعثيين. يضاف إلى ذلك أن جمال عبد الناصر كان رمزا لليسار و الاشتراكية و العدالة الاجتماعية في العالم الثالث كله، تماما كما كان رمزا للحرية و الوحدة في العالم العربي.

و تعتبر التفاعلات و المراجعات السياسية التي طبعت السنوات 1966 - 1968 ذات أهمية استثنائية في تاريخ حركة الكادحين و في مشروع الدولة الوطنية في موريتانيا بصفة عامة. لقد شهد عام 1966 مجموعة من الأحداث المتميزة عن بعضها البعض، تشابكت حتى قادت إلى فتنة مايو 1966 المشئومة. فبعد اعتماد قوانين إلزامية اللغة العربية في الابتدائية و الثانوية انطلقت حركة احتجاجات في صفوف التلاميذ الزنوج، تعاطفت معها لائحة من الكوادر معروفة بلائحة ال 19. و ردا عليها تحركت قيادات طلابية عربية مطالبة بتطبيق القانون، و في زيارة المختار و لد داداه للثانوية الوطنية قابلته مجموعة من المحتجين المطالبين بتطبيق القانون كان منهم يومها سميدع و ممد ولد احمد، و راسلهم ولد بدر الدين بالشعر من قاهرة جمال عبد الناصر، حيث كان هناك في تكوين لمدة سنتين. و انتهى المطاف بهذه المجموعة إلى إعلان إضراب مضاد لإضراب الفرنكفونيين. و قد لعب تدخل السفارة الفرنسية و احتدام المجابهة بين جناحي محمد ولد الشيخ و احمد ولد محمد صالح في الحكومة، في وقت كان فيه الرئيس في زيارة إلى مالي، دورا حاسما في إشعال الفتنة. و هذا ما دفع الرئيس إلى عزل الوزيرين و إيداع قيادات الطرفين السجن.

و في السجن وجدت الأطراف فرصة لمراجعة النفس و إدراك خطر الانقسام العرقي على مستقبل البلاد، و كيف أنه يصرف الأنظار عن المطالب الحقيقية المشتركة للكل الموريتاني. و جاء تصاعد نضال العمال في ازويرات ليسهم في إعادة صياغة و ترتيب الأولويات و توحيد القوى الوطنية. و في العام 1968 اشتدت حدة الحركة العمالية المطالبة بتحسين ظروف العمال في "ميفرما"، و دخل على الخط في تلك السنة "سميدع" و من ورائه "نقابة المعلمين العرب"، التي لم يكن أمينها العام شخصا آخر غير المصطفى ولد بدر الدين. و بينما واكب سميدع ميدانيا الثورة العمالية التي حاصرت الفرنسيين و دفعتهم إلى توجيه نداء استغاثة إلى الجيش، الذي أودى تدخله بحياة 9 من العمال، كان ولد بدر الدين يوقع و يوزع بيانا منددا و مناشير إخبارية باسم نقابة المعلمين العرب. لم يتمكن سميدع من مشاهدة حصاد نضاله حيث توفي مريضا في داكار عام 1970. و قد امتلأت السجون بالمناضلين، و دخل بدر الدين و أعضاء المكتب التنفيذي للنقابة السجن مجتمعين.

و من أبرز ميزات ثورة ازويرات أنها طوت بالنسبة للكادحين صفحة النزاع العرقي و أعطت "المشروع الوطني لاستكمال الاستقلال" عنوانه الأهم، و هو "تأميم ميفرما" لتأمين العدالة الاجتماعية للجميع سودا و بيضا. و كان الشهداء من الطرفين، كما أن الطرفين كانا مشاركين بكثافة في الاحتجاجات العمالية. و تلك المراجعة كانت أهم إضافة ميزت مؤتمر توكومادي 1968، الذي يعتبر بمثابة المؤتمر التأسيسي للحركة.

لقد ولد الخطاب الوطني الجامع الذي بثته الصحافة السرية للكادحين و من أبرز صحفها "صيحة المظلوم". هذا الحراك انتهى به المطاف إلى صياغة مطالب محددة يمكن اعتبارها مطالب الاستقلال الحقيقي، اهمها : تأميم ميفرما و سوميما، و ترسيم اللغة العربية و كتابة اللغات الوطنية، و إطلاق الحريات الديمقراطية و تصفية العبودية و تحسين أحوال الشعب و تحرير المعتقلين و العفو عن المظلوبين و تسوية ظروف المفصولين.

و قد أتجه الكادحون بسرعة إلى الخطاب الاشتراكي الاجتماعي، و لا غرو أن يكون الأمر كذلك في حقبة مطبوعة بهيمنة الخطاب الماوي. حقبة كانت فيها فرنسا الديغولية نفسها تنهار في مواجهة ثورات 68 اليسارية. لكننا للأمانة لا نعتقد أن الشيوعية الإلحادية كانت حاضرة في الإطار النظري للكادحين. و نعتقد أن بدر الدين لم يجانب الصواب عندما قال في إحدى المقابلات : "إن اليسار  هو - قبل كل شيء - الفكر الذي يدافع عن الطبقات المسحوقة و يدعو للتوزيع العادل للثروة و يناضل من اجل استقلال البلاد و سيادتها، و من اجل حقوق الإنسان. و هذا الفكر كان أهله دوما مختلفين. اليسار لا تقال للشيوعيين فقط، بل تقال أيضا للاشتراكيين في أوروبا و بلدان العالم الثالث، مثل القوميين_(الناصريين و البعثيين) في الوطن العربي".

بالنهاية تعاطت حكومة المختار مع مشروع الكادحين، و ما كان لها إلا أن تفعل، فالمشروعان يلتقيان و يتكاملان. المختار و إن كان - شأنه شأن زعماء إفريقيا في تلك المرحلة من أمثال سنغور و هوفوتبني - مضطرا إلى الاعتماد على الإدارة الاستعمارية السابقة إلا أنه تميز باستقلالية القرار الداخلي و الخارجي. و لعل الرجل كان أكثر تواصلا من الكادحين مع ماو و تيتو و عبد الناصر، و تكشف مذكراته عن نوع من الانتماء الإيديولوجي لخط هؤلاء الزعماء. و كأنما كان الكادحون يوفرون له قوة دعم في مواجهة الحليف و الوصي الفرنسي.

و حالة التقاطع بين هذه الحكومة و هذه المعارضة هي التي قادت في الأخير إلى النهاية السعيدة عام 1974 عندما أعلن المختار تأميم ميفرما وسوميما و بياو و اعتماد العملة الوطنية و إصلاح التعليم بترسيم العربية و كتابة اللغات الوطنية، و إخلاء السجون من معتقلي الرأي، و توزيع الأراضي على سكان أحياء الصفيح و المخيمات، و دعم بعض المواد الأساسية و الأدوية. بعدها صدر ميثاق وطني تقدمي لحزب الشعب كما عقد مؤتمر وطني للشباب، عرف إعلان اندماج الكادحين في حزب الشعب، كما تمخض عنه انتخاب قيادة وطنية تقدمية تشارك في حكم البلاد.

و هذا الاندماج التاريخي بين الكادحين و حزب الشعب كان تعبيرا عن حالة استثنائية نموذجية من اللقاء بين السلطة و المعارضة الوطنية، بالرغم من بقاء مجموعة قليلة متمسكة بالديمقراطية التعددية و ترفض الاندماج في حزب الشعب، كان ولد بدر الدين من ابرز كوادرها.       

ح.و.د عصر التيه الإيديولوجي و النخبوية و اللوبينغ

بمجرد تحقيق هذه المنجزات الكبيرة على طريق استكمال التحرير و الاستقلال - الذي كان جوهر مطالب اليسار الموريتاني - دخل هذا الأخير عصر التيه الإيديولوجي، بمعنى عصر اختلاط الأوراق الإيديولوجية، و فقدان البوصلة الثابتة في تحديد الأولويات السياسية و الاجتماعية، و عصر تراجع مستوى الجماهيرية و  ضعف الارتباط بمطالب الشارع. و ذلك - بالنسبة لقراءتنا هذه - هو المناخ الذي ولدت في سياقه الحركة الوطنية الديمقراطية (ح.و.د و المشهورة أكثر بالاختصار الفرنسي MND)، في مرحلة إعادة التأسيس عام 1976. و هي المرحلة التي قاد مبادرتها "الرفاق" العائدون من فرنسا، بزعامة "الرفيقين" و رفيقي مقاعد الدراسة محمد ولد مولود و با ببكر موسى.

و في هذه المرحلة كان ملفا التمييز العنصري ضد المكونات الزنجية، و الاصطفاف خلف جبهة البوليساريو و اعتبار كفاحها المسلح ضد البلاد كفاحا مشروعا، يستحق التضامن و التأييد من أهم الملفات التي احتلت الصدارة في المشروع الإيديولوجي ل ح.و.د. و كان ذلك الموقف من البوليساريو من أهم الأسباب لتراجع شعبية الحركة، و النظر إليها في بعض الأوساط كقوة معادية. و لا شك انه خطأ استراتيجي جوهري في ظل المواجهة المسلحة بين الجيش الوطني و البوليساريو. و لم يكن التغني ب"الولي" قائد العملية العسكرية ضد نواكشوط مساعدا في توسيع القاعدة الجماهيرية للحركة.

و من أبرز الملاحظات التي نرى من المهم تسجيلها في سياق القراءة التحليلية التي نحن بصددها :

الملاحظة الأولى : تتعلق بمسألة  النخبوية و الجماهيرية. و في هذا الإطار يمكن القول إن هذه الحركة التي ورثت نضال سميدع - الذي حرك جميع فئات الشعب في أيام و أسابيع قليلة - ظل منحنى التعالي على الجماهير من عمال و فلاحين، و التقوقع في الاجتماعات و النقاشات النخبوية في الثانوية و الجامعة، ينمو لديها بشكل تصاعدي متسارع. حتى تحولت إلى "لوبي" صغير يلعب الشطرنج السياسية مع الحكومات العسكرية و الحركات الإيديولوجية السرية و دوائر النفوذ الإقليمي و الدولي.

و للأمانة ينبغي التنويه إلى أن ولد بدر الدين و قلة من القيادات التاريخية للكادحين لم تقبل الاستسلام لهذا "السجن النخبوي" أو "البرج العاجي" في نواكشوط و الثانويات و الجامعة. و حافظت على تواصل وطيد و مباشر مع العمال و الفلاحين. و كانت أبرز ثمار ذلك الجهد السيطرة الكبيرة للحركة الوطنية الديمقراطية داخل اتحاد العمال الموريتانيين، و خصوصا منه الفروع الخاصة بالحمالة و عمال المعادن. و كان الزعيم التاريخي لاتحاد العمال المرحوم محمد محمود ولد الراظي ابرز أعلام ذلك الخط النضالي. و اليوم يعتبر ابن أخته "النهاه"، الأمين العام للكونفدرالية العامة لعمال موريتانيا CGTM، الحامل الوفي لذلك المشعل، و هو في المكتب التنفيذي لإتحاد قوى التقدم يحسب ضمن مجموعة ولد بدر الدين.

الملاحظة الثانية : تتعلق بملف العبودية و "لحراطين". و ما هو معروف أن الكادحين تناولوا مسألة العبودية في وقت مبكر، إن لم يكن سابقا على حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية فهو متزامن معها. و كان لديهم اهتمام ببعد أساسي من أبعاد هذا الملف - قد يكون أهمها على الإطلاق - هو البعد المرتبط بالإقطاع و الملكية العقارية. و تعتبر النضالات التي قادها ولد بدر الدين و مجموعة من الزعامات المحلية و الوطنية للكادحين و ح.و.د في مناطق مثل "الغبرة" في مقاطعة "انبود" و "أشلخ لحمير" في "مكطع لحجار"، أمثلة حية لذلك.

لكن "عصر التيه الإيديولوجي للكادحين" تميز بتهميش ملف العبودية، ضمن إجراء تكتيكي - واع أحيانا و غير واع أحيانا أخرى - لمنح الصدارة التامة لمسألة التمييز العنصري ضد المجموعات العرقية الزنجية. نعتقد أن "حود" تجنبت منح ملف العبودية المركزية التي يستحقها على اليسار، لما فيه من كشف للعبودية في أوساط زنوج موريتانيا من ناحية، و لأن هؤلاء الأخيرين - وهم القوة الأهم في اللوبي القائد ل"حود" - ظلوا دوما يستغلون حصة لحراطين في إطار "القسمة" او "المحاصصة الوطنية" في التعيينات الحكومية، منذ عهد حزب الشعب. و لم يكن غريبا إذن أن يبادر زعماء "الحر" إلى الانفصال و تشكيل حركتهم الخاصة عام 1976.

لنقل إن تصاعد المطالب العمالية في "ميفرما" لعب دورا أساسيا في إضعاف النزعة القومية العروبية لدى "السلف الأول من الكادحين"، و تدعيما للتوجه نحو المشترك بين الموريتانيين بكل أعراقهم. و بنفس المعنى يكون ملف الرق و العبودية الملف الأقدر على إضعاف القومية الإفريقية السوداء و تصفيتها. إنه كذلك لسببين : لأن كشف العبودية التي تمارس في أوساط "السوننكي" و "البلار" بشكل اشد مما هو عليه الحال في الوسط العربي يفقد التفسير العنصري للرق في موريتانيا مصداقيته، و يحول جبهة الرق إلى جبهة وطنية لا لون و لا عرق لها. و المعروف أن التفسير العرقي للعبودية في موريتانيا هو عنصر القوة الأساسي ل"افلام"، التي عينت نفسها وكيلا على "لحراطين". و بعد أن استحوذت على حصتهم في الحكومة على المستوى الداخلي، عينت نفسها وصيا عليهم و متحدثا باسمهم على المستوى الدولي. و الكل يعرف أن برامج التعاون الموجهة إلى "لحراطين" كانت تستغل من طرف كوادر "افلام". و بالطبع لا يخفى على أحد أن التحالف بين "افلام" و "إيرا" ينطوي على تفاهم ضمني على السكوت عن العبودية في أوساط الزنوج و التقليل من تناولها عند الإضطرار لذلك.

الملاحظة الثالثة : تتعلق بملف التمييز العنصري و الوحدة الوطنية. و هذا الملف سنخصص له مقالنا القادم المخصص لمشروع "المرشح الرئاسي الزنجي الموحد" الذي يتم التداول حوله منذ فترة و لهذا السبب سنختصر حوله رغم إنه الملف الأبرز و الأهم في الإطار الإيديولوجي ل"حود".

لكن من اللازم الإشادة في هذا السياق بالدور الهام للحركة الوطنية الديمقراطية في المحافظة على التوازن العرقي و حماية السلم الأهلي باستيعابها لعدد كبير من الكوادر المثقفة من الزنوج في موريتانيا، الذين خاضوا بقوة و بقناعة و صدق كاملين المعركة ضد الخطاب العنصري ل"افلام"، في معاقلها، و في أوساط البلار و السوننكي و الوولوف. و لكثرة هؤلاء و شهرتهم، و لأنني سأعود إليهم في المقال القادم، لا أشعر بالحاجة إلى أمثلة. و على الضفة الأخرى كان دور "حود" مشهودا في أحداث 1989 و ما تبعها. في مواجهة العنف الظالم الذي أوقعته قوى الأمن و الجماهير العنصرية على مواطنينا الزنوج، و وفرت له التيارات القومية العروبية غطاء إيديولوجيا. و بالخلاصة يمكن القول إن هذه الحركة هي الراعي الوطني الأول للوحدة الوطنية و السلم الأهلي في علاقة بمسألة العدالة الاجتماعية و حقوق الإنسان.

"مالك جلو" و " لو غورمو" مشروعان برلماني و رئاسي

شاركت الحركة الوطنية الديمقراطية بفاعلية في الحراك الديمقراطي الممهد للدستور التعددي لعام 1991، لكنها عرفت أنها ليست جاهزة لاستلام مركز قيادي في ظل الديمقراطية التعددية. لقد كانت المسافة الفاصلة بينها و بين ربيع الكادحين كبيرة. الرأي العام تغير جوهريا، و الدولة العميقة أغلقت دائرة تحالفاتها الجديدة في حدود العسكر و شيوخ القبائل و رجال الأعمال. و إذا كان من مكان للإيديولوجيا السياسية فهو ذلك المخصص للقوى القومية الظلامية في أكثر صورها تطرفا. مشهد 1991 يتكون من جبهة "افديك" المكونة من تحالف القوى العرقية و الفئوية لقيادات "أفلام" و "الحر"، في مواجهة نظام ولد الطايع الذي عبأ خلفه القوى القومية العربية و الجناح التقليدي من الحركة الإسلامية.

لم يكن أمام أصحابنا خيار آخر سوى الانضمام للقطب المعارض رغم عدم تقاسم الفكر مع الكثير من مكوناته. لم يفكروا لحظة في تشكيل حزب خاص بهم، فأحرى التطلع لحكم البلاد. لقد كانت الواقعية السياسية و الوعي الإستراتيجي ما تزال تحكم خيارات القوم. و هي الواقعية السياسية التي دفعت اليساريين إلى التبني السريع لترشح احمد ولد داداه. بعدها صبروا و صابرو مع ولد داداه، حتى كانوا آخر المجموعات انسحابا من مظلته.

و بفعل حظر تأسيس الأحزاب السياسية في ظل نظام حزب الشعب ثم اللجان العسكرية المختلفة اعتمدت الحركة الوطنية الديمقراطية نهج التنظيم السري. و هو التنظيم الذي أعلن حله في اليوم المشهود - الذي له ما بعده - في مؤتمر الوفاء بدار السباب القديمة عام 1998.

مؤتمر الوفاء يستحق في سياق هذه القراءة التحليلية وقفة نركز فيها على ملاحظتين :

الملاحظة الأولى : تكريس الثنائية في القيادة و التأسيس لحركتين سريتين محل التنظيم السري المحلول. و واقع الحال أن هذه الثنائية لازمت الحركة في جميع مراحلها. محمد ولد مولود لم يكن معروفا طيلة السبعينات و الثمانينات و التسعينيات إلا عند كوادر "حود"، أما بدر الدين فكان معروفا لدى جميع الموريتانيين باعتباره زعيم اليسار، و كان كذلك قبل أن يولد ولد مولود سياسيا.

لكأنما كان مناضلوا الحركة يعترفون برئيسين أحدهما في "الظاهر" و الآخر في "الباطن". بلغة "إخوان الصفا"، احدهما "ملك مملكة الأرض" و الآخر "ملك مملكة السماء". لقد كانوا إذن يفكرون في إطار "فكر الغيبة" و "المهدي المنتظر". أرجو أن لا يكون ذلك كذلك. لكن خدجة مالك جلو عندما قرأت تدوينة رد بها عليها لو غورمو تقول : "الحزب قرر الانتحار برأس مرفوعة" - عندما قرأت التدوينة - ردت قائلة : "حزبنا ليس طائفة دينية، حتى يقرر رئيسه أو نائبه في مكان مناضليه أنه يجب أن ينتحر". هل أصبح اليساريون مهددين بالإمارة الطالبانية أو البغدادية التي قلنا في الحلقة الماضية إن نسخة تواصل ما بعد جميل مهددة بها.

 كان يفترض بمؤتمر الوفاء الذي أعلن فيه اليساريون النزول إلى أرض العلنية و الشفافية، أن تصحح فيه الوضعية و يستلم بدر الدين القيادة في الحزب. لكن الواقع هو أن ولد مولود تمسك بموقع ليس له، و كاد المؤتمر يفشل لولا اعتماد نظام أساسي توافقي يعطي صلاحيات التسيير و رئاسة اللجنة الدائمة لبدر الدين و يمنح الرئاسة لمولود، بصيغة الوصاية التوجيهية و التأطيرية.

لقد ولدت حركتان سريتان في إتحاد قوى التقدم، أحداهما بقيادة بدر الدين و الأخرى بقيادة ولد مولود. تخلو عن اللوبي السري لكن إصرار قائده حولهم إلى لوبيين في مواجهة لم تتوقف منذ ذلك التاريخ. و احتدمت بعد أن تمت مراجعة نظام الحزب لمنح الرئاسة الصلاحيات التنفيذية التي كانت لدى الأمين العام، و ذلك عندما سنحت الفرصة لمولود غداة انتخاب ولد لدر الدين نائبا في البرلمان في انتخابات 2001. و اليوم نحن أمام حرب معلنة بين الأطراف. و ليست معركة التدوينات الأخيرة بين خدحة مالك جلو و لوغورمو عبدول سوي حركات التنشيط للاعبين قبل دخول الملعب. و سنشهد في الأيام القادمة دورة للمجلس الوطني و المكتب التنفيذي تعد بالكثير من السخونة و الحدية.

الملاحظة الثانية : اعتماد برنامج و منهج نضالي يصب باتجاه مشروع برلماني لا مشروع رئاسي.

و بداية يجدر التنبيه إلى أن الأحزاب السياسية - و إن كان هدفها الأصلي هو الوصول إلى السلطة - ليست من طبيعة واحدة. الأحزاب نوعان فيما يخص هذه النقطة : حزب يتأسس بمناسبة ترشح رئاسي و تحالف انتخابي عريض حول هذا الهدف، و حزب يسعى إلى توجيه التسيير الحكومي أو التأثير عليه في علاقة برؤية محددة ، يفترض أن تتبناها كتلة أو كتل برلمانية.

يمكن القول بأن "التكتل" و "التحالف الشعبي" حزبان مرتبطان بمشروع رئاسي، و أنه في اللحظة التي يتجاوز فيها ولد داداه و ولد بو الخير السن القانونية للترشح يصبح بقاء هذين الحزبين مهددا. و بالمقابل فإن تواصل و إتحاد قوى التقدم حزبان لا يرتبطان بمشروع رئاسي و لا يمكنهما خوض الانتخابات الرئاسية إلا بصفة رمزية. و التواصليون يدركون ذلك، و رفضوا الترشح عندما طلب منهم، و كان يفترض بالقيادة في "تقدم" أن تكون على نفس المستوى من الفهم و الواقعية. ما كان يجوز للحزب أن يتجاوز الخيارات الإستراتيجية الملائمة له، لمجرد أنه لاحظ شغورا في منصب المرشح الموحد للمعارضة.

 على أية حال ما يفهم من التقرير المذهبي لمؤتمر الوفاء في اعتماده لسياسة الحوار و المساومة الوطنية مع نظام ولد الطايع هو انه يرسم إستراتيجية لحزب برلماني لا حزب رئاسي. و قد بدأ ذلك الحوار سريعا و انتهى بتحسينات مهمة في المسار الديمقراطي. و كانت ابرز محطاته اللقاء بين ولد الطايع و ولد مولود عام 2002. و قد اعتبر يومها لقاء مرفوضا من طرف معظم زعامات المعارضة.

و تنفيذا لتلك السياسة شارك الحزب في الانتخابات البلدية و البرلمانية للعام 2001 في ظل مقاطعة مجموعة ولد داداه و أطياف أخرى. و هي الانتخابات التي توجت بدخول ولد بدر الدين البرلمان الموريتاني. و لعل هذا التطور الأخير يشكل المحطة الأبرز في التاريخ السياسي المعاصر لليسار و للمعارضة بصفة عامة. لقد تمكن ولد بدر الدين من توظيف تجربته و خبراته كمعلم و كمعلم سياسي ليكون أشهر نواب موريتانيا و أكثرهم تميزا في الأداء. و كان من ابرز منافسيه في هذا المجال خدجة مالك جلو، التي أصبحت ابرز نجوم البرلمان منذ دخولها له عام 2006.

و قد تمكن اليسار الموريتاني من المشاركة النشطة في البرلمان كنتيجة مباشرة لسياسة الحوار و المساومة الوطنية. و كان البرلمان إطارا مناسبا لحزب قوته الفكرية و تميز خطابه لا توازي قدراته على تعبئة رأي عام نسي بالكامل ربيع الكادحين و انقلبت أولوياته. و عادت السيطرة فيه للقبيلة و العرق و الفئة. و في ذات سياق المشاركة المتدرجة في توجيه العمل الحكومي و التأثير عليه، دخل الحزب الحكومة من خلال أحد ابرز كوادره و ابرز كوادر البلد هو با بوبكر موسى عام 2007، وزيرا في الحكومة في ظل رئاسة سيدي ولد الشيخ عبد الله.

لكن مواجهة الأجنحة في الحزب دخلت مرحلة معركة كسر العظم، إذ أنها انتقلت من خلاف شخصي إلى خلاف استراتيجي عميق. و ذلك ما عبر عنه بشكل معمق أحد ابرز القادة المخضرمين للكادحين، محمد عينين ولد أحمد الهادي، الذي كان حاضرا في في اجتماع توكومادي التأسيسي عام 1968.

كتب ولد احمد الهادي مقالة في الأسبوع الماضي تحت عنوان "هل نحن بحاجة إلى انتحار جديد"، شرح فيها كيف خانت القيادة الجديدة مبادئ الحركة و إستراتيجية الحزب التقليدية. و نعرض هنا مقتطفات من المقال الذي يأتي في سياق الحملة التي يقوم بها جناح ولد بدر الدين ضد مشروع الترشح الانتحاري، الذي يدفع إليه محمد ولد اخليل و لو غورمو الرئيس محمد ولد مولود. و هو ترشح يعرف الجميع انه عبثي، و انه لم يحترم نصوص الحزب و لولئحه. لقد قدم للمعارضة بطريقة خجولة و قدم للتكتل، رغم أن هيئات الحزب لم تدرسه و الكثير من قادته يعارضونه.

يقول محمد عينين ولد أحمد الهادي :

"- رفضت القيادة المشاركة في كل حوار دعا إليه النظام، وغم تحفظنا جميعا عليه، تطبيقا لمبدأ ديمقراطي  هو عدم شغور المقعد. و بتلك الخطوة منعنا من طرح رؤيتنا للوضع المتأزم و اقتراح الحلول المناسبة للخروج منه. و كأننا لسنا معنيين بالحوار مع الأنظمة. ألم نحاور نظام ولد الطايع طيلة حكمه، و نزعنا منه بعض التنازلات .. و حين لم نحصل على تنازلات مرضية نكون قد أحرجنا القائمين على الحوار و المشتركين فيه

- مقاطعة انتخابات 2013، و هو ما كان ضربة قاضية أفقدت الحزب الجزء الأكبر من قواعده في مناطق كثيرة من أبرزها معاقله في بوكي و كيهيدي. و هو قرار يتعمد أصحابه منعنا من منبر كنا نستغله لإسماع صوتنا عن وعي و سابق إصرار".

يقول أيضا ساخرا من مشروع الترشح الانتحاري لولد مولود :

"هل الوضع يحتاج إلى يساريين راديكاليين - كما يقول البعض - أو إلى من يمكن أن يساهم في إخراج البلد من الوضع الذي يوجد فيه و لو كان غير معارض أو راديكالي؟

هل باستطاعتنا ان نوفر توقيع 100 مستشار بلدي و 5 عمد من ثلاث ولايات إضافة إلى كثير من الممثلين في جميع مكاتب التصويت ؟

هل نحن نمتلك قاعدة انتخابية قادرة على فرض التغييرالذي يحتاجه البلد و على من نعتمد ؟

الحصول على مبلغ مالي يزيد على مليار من الأوقية، و نحن لم نستطع القيام بحملة تجديد هياكل الحزب منذ أزيد من عشر سنوات، و لم ننظم نشاطا واحدا يخص بنا ؟

أليس عدم اعتبار هذه الحقائق انتحارا سياسيا، عندما نحصد ما حصدناه في رئاسيات 2007 ؟".                                   

بدر و جميل مخلفان في غزوة ما كان لهما التخلف عنها

بعد 60 سنة في حالة ولد بدر الدين، و 40 سنة في حالة جميل، حان الوقت لتقولوا لنا ما سمعناه من ولد الغزواني في خطاب الترشح عندما قال: "أتعهد أن أوظف بصدق و جد و إخلاص ما من الله علي به من تربية و تكوين و تجربة و خبرة في مفاصل الدولة في سبيل معالجة مكامن الخلل و سد مواطن النقص أيا تكن". إننا بحاجة مع تجربته هو إلى تجربتكما أنتما و تكوينكما.

لو كنت مكانكما و رأيت عيانا تبخر المعارضة الحقيقية و صعود المعارضة الدعية و الهجينة، التي يتكون راديكاليوها من أشخاص معروفين بالبيع و الشراء في مختلف الأنظمة التي عارضناها خلفكما، و الذين لم يكونوا يوما "في عير المعارضة و لا في نفيرها"، لما ترددت لحظة و لأجبت منادي الغزوة الغزوانية، الواعد بصنع التغيير. لو كنت مكانكما لأجبت تلك الدعوة التي تقول : "إخوتي أخواتي، أيها الشعب الأبي الكريم، أدعوكم جميعا و نحن على أعتاب هذا الاستحقاق المهم إلى الالتفاف حول هذا المشروع في هبة وطنية صادقة، حتى نصنع التحول المنشود".

لو كنت مكانكما و سمعت الدعوة و التعهد من رجل لم يتكلم في الماضي و لم يدعي شيئا، في بلد لا أحد فيه لم يستنفد رصيده من الكلام و الإدعاء، لوثقت بهذا الكلام و تجاوبت مع تلك الدعوة، و لبدأت استعد بما لدي من أفكار بناءة لتكون جاهزة صبيحة يوم تنصيب الرئيس ولد الغزواني. ألم يقل لي و لكما و لكل الشعب الموريتاني : "أدعو كل التشكيلات السياسية و المنظمات المهنية و الشبابية و المجتمع المدني، إلى الإسهام في إنجاحه - يقصد المشروع الرئاسي - و المساهمة الفاعلة في تنفيذه. و سيجد الجميع مني آذانا صاغية و عقلا منفتحا و صدرا رحبا في التعاطي مع كل فكرة بناءة و رأي رصين. بكم يكتمل النجاح و كل منكم يمكنه أن يشارك من موقعه".

أقل ما يستطيع ولد بدر الدين أن يشارك به في النظام القادم أن يؤسس منظمة للنضال في سبيل العدالة و التنمية لشريحة "لحراطين" تقدم الأفكار و المقترحات التي تخرج بالفئة و بالمجتمع كله من دوامة الكراهية و الاستقطاب الفئوي. و أقل ما يستطيع جميل ولد منصور هو تفعيل دور مركزه للدراسات لتقديم أفكار بديلة للوطن كله و للمساهمة في ترشيد الخطاب الإسلامي في موريتانيا و في شبه المنطقة و دمجه بقوة في مسار التنمية و الأمن و التسامح.

لو كنتكما لما التفت إلى اللوبيات المتحكمة في الحزبين، و التي خانت المبادئ و ضربت عرض الحائط بالتشاور و التداول وفق اللوائح الطبيعية للعمل الحزبي ألتشاوري و الديمقراطي. و لم تجد من خيار تفرضه إلا أسوأ الخيارات للبلد و للمعارضة. اللوبيات التي - إذ خانت المبادئ التي كنتما من روادها و ملهميها - خانتكما، و حرصت على إقصائكما. إن منع جميل من قيادة مؤسسة المعارضة التي كأنما خلق لها و خلقت له بعذر اقبح من ذنب، لا يشبهه في السوء إلا منع ولد بدر الدين من عضوية برلمان، إنما ولد يوم دخله، و فقد بريقه يوم خرج منه، بعد قرار المقاطعة المشئوم عام 2013. و في الانتخابات الأخيرة بعد أن وقعت جميع أقسام الحزب في نواكشوط على ترشيح ولد بدر الدين تم رفض قرار القواعد و الأقسام.

لو كنتكما و رأيت نزيف المعارضة و تدفق جماهيرها باتجاه مبادرات دعم ولد الغزواني، بما فيهم الكوادر و الجماهير في حزبيكما لأصطففت معهم و لم اتركهم أيتاما بعد أن تخلف عنهم قادتهم. أقله يكون هنالك مجال في الغد عندما يراد للأحزاب أن تعيد هيكلتها للتمكن من استعادة تلك الجماهير من طرف قيادات مثلكم لم تتخلى عنها.

أدعوكما للمشاركة و عدم التخلف في "غزوة بريل" التي سيزور فيها ولد الغزواني جميع مقاطعات البلاد، و أهديكما هذا "الكاف" المتداول هذه الأيام على منصات التواصل الاجتماعي ل "بو دربالة" :

المعارضة مفيدة            فالظرف اللاهي يمليها

غير الا ماهي عقيدة     او لا مكتوب الحد اعليها

مع العلم أنني لا أعتبر ولد غزواني مرشح النظام ضد المعارضة. المعارضة هي معارضة ولد عبد العزيز و هو ليس مترشحا. و انتماء ولد بوبكر و ولد بوعماتو إلى نظام ولد عبد العزيز اكبر من انتماء ولد الغزواني أليه. ولد الغزواني عندما شارك في الانقلاب محكوم بانتمائه العسكري لا باختياره السياسي. و عمله في النظام كان قيادة الأمن و الجيش و هي مهمات انضباطية في خدمة الدولة بمعناها الكلي المعبر عن الإرادة العامة. أما الآخرون فقادوا و مولوا الحزب و الحكومة.

"لم لا تعيدون لنا التاريخ الناصع لمؤتمر العناق بين مطالب الكادحين و نظام المختار ولد داداه عام 1974".

محمد الأمين ولد أبتي

كاتب و باحث   

[email protected]

يتواصل أسبوعيا بإذن الله.